رؤية هيبت بافي حلبجة حول تطور الأحداث في سوريا والحلول الممكنة

(لقد كتبت هذه الرؤية بناء على طلب جهات متقدمة في الإدارة الأميركية والبريطانية)
أيها السيدات والسادة الأفاضل

لكم كل التقدير والأحترام ، وأشكركم على هذه الثقة التي منحتموني أياها ، وسأحاول قدر الأمكان أن ألج صلب الموضوع السوري دون حرج ، دون أن أعتمد على عنصر الإرادة أو الرغبة ، كما أنني سأصرف النظر عن بعض الأطروحات الهامشية ، وكذلك بعض الآراء التي لاأعتبرها تنضوي تحت مفهوم التاريخي ، وكذلك بعض التصورات التي لاتتجاوز الأفق الشخصي ، ومن هنا تحديداُ أحبذ أن نذهب سوية إلى عمق الحدث السوري .
وثم نعرج إلى عمق الأحداث في المنطقة العربية برمتها بما فيها ما يسمى بالنزاع العربي الأسرائيلي .

فالمسألة أضحت الآن مكشوفة من الداخل السوري ، ومن الخارج العربي ، بكل معاييرها ، وبكل عوامل وجودها ، وبكل حيثيات تفاعلها .

إذن لدينا مستويان ، أحدهما سوري بحت ، والآخر جمعي عام مشترك .

والأثنان متداخلان ومتباعدان ، لكن الشيء الذي يفرض نفسه على المستويين ، وعلينا ، وعلى كل قوة تهتم بالشرق الأوسط ، أو لديها مصالح حيوية ، أو تعتبر الأهتمام به هو جزء من أهتمامها بالعالم ، وعلى الفئات والأثنيات والشعوب في المنطقة ، وعلى التيارات الحزبية والسياسية  ، هو أعتقادنا أننا نحن ، والشرق الأوسط قد دخلنا في مرحلة تاريخية جديدة التي لم تعد تقبل على الأطلاق كافة مقومات ، وأفكار ، وسلوكيات المرحلة الحالية التي أعتبرها منذ الآن – سابقة – .

فهذه المرحلة الجديدة الحالية لايستطيع أحد مهما كان ، ومهما أوتي من القوة أن يتجاوز مقتضياتها إلا بالرضوخ لها .


وهنا يبرز السؤال الأكثر جوهراُ ، الأعظم أهمية ، والذي نجيب عليه دون طرحه ، وهو إن المنطقة كلها بحاجة إلى حل جذري شامل ، وإلا فإن الأشكاليات ستستمر وتدوم بفظاعتها وجسامة هولها .
إن القوى الديمقراطية والعلمانية والمحبة للسلام والتي لاتملك أجندات مستترة ، أنتقلت من ضعف في المردود التاريخي ، إلى قوة مضمرة عظيمة في الظاهرة التاريخية ، وهي بحاجة ماسة إلى مرحلة من التماهي ، والتكوين ، والأئتلاف ، لكي تبرز كقوة أولى في صياغة هيكلية جديدة للمجتمع السوري ، ضمن قوانين العرف الدولي ، والذهنية المشتركة .
وفيما يخص القوى الأسلامية المؤدلجة ، رغم أنها تبدو قوية جداُ ، ومتماسكة ، وكأنها البديل القادم المفترض ، إلا أن هذه المرحلة التاريخية قد جاوزت أسس ومقومات هذه القوى ، من الزاوية التاريخية المحضة ، ومن زاوية الوعي العام ، ناهيكم إن هذه القوى لاتملك أسباب المحتوى الديمقراطي الحديث ، هي تستطيع أن تحاكي – تصطنع – حالة الديمقراطية ، لكن لا من الناحية السياسية ، ولا من الناحية الأيديولوجية ، هي قادرة على أكمال هذا الدور ، رغم إن في طياتها الحالية نفحة إيجابية من تقبل الآخر ، لكنها لاتكفي على الأطلاق لأستلام هذا الدور .


وبنفس الحيثيات ، ينبغي أن نتحاشى الذهاب ، في مرحلة ما بعد السلطة السورية الحالية ، إلى أستخدام مفهوم من هو البديل السياسي !! هذه ستكون كارثة في مستوى الديمقراطية ، وفي مستوى التحليل التاريخي ، والتعليل المعرفي ، وستكون ضارة جداُ ومؤذية في حق الثورة السورية نفسها .

فلابديل سياسي على الأطلاق ، إنما البديل هو ومن موقع الضرورة التاريخية هو – لاسياسي – يغترف من محتوى السياسي ، لأنه ينبغي أن يكون – من الشعب –  ومن مؤسسة مدنية تنشىء الآن من شرائح – الشعب – اللاسياسية .

هذا من حيث المنطوق والتحليل ، ومن ناحية أخرى لإن – السياسي – قد أستهلك ، ونفدت مقومات ديمقراطيته تحديداُ .
وبدرجة أقوى ، وأكثر صراخة ، فأن الأنظمة العقائدية الشمولية – حزب البعث – قد أفلست تاريخياُ ، بل أن مدلولاتها أصبحت وكانت تناقض الشريعة الأساسية للتجربة البشرية ، وهي بالتالي سبب أصل الداء ، ومبعث الأزمات ، ولابد من التخلص منها كلياُ ، من هكذا نظم ومن هكذا حزب .
وبنفس الدرجة ، وبكل صراحة ، لايمكن للولايات المتحدة الأميركية ، والدول الأوربية ( المملكة المتحدة ،الجمهورية الفرنسية ، ألمانيا الأتحادية ) أن تتعامل مع شعوب الشرق الأوسط بنفس الأسلوب القديم الماقبل الثورات ، وإن أستمرت فيه فهي لايمكن إلا أن تصطف في جهة الخاسر تاريخياُ .

لإن الوقت قد حان أن يتم الحوار مع الشعوب وليس مع الأنظمة القمعية المستبدة ، ولذلك لامناص من إيجاد صيغة توافقية ، صريحة وواضحة تخدم وتحافظ على المصالح الحيوية لتلك البلدان ، وتضمن مبادىء الديمقراطية والحرية والعدالة الأجتماعية للشعوب .
ولكي تكون الأمور واضحة أكثر ، نؤكد من إن المنطقة بحاجة إلى مفهوم جديد للأستقرار ، وبحاجة إلى أستقرار ذا ديمومة ، أستقرار يكفل النمو الأقتصادي ، والتطور الطبيعي للسوسيولوجيا ، وهذا لن يتحقق إلا إذا أصبح الشعب سيد نفسه ، محرك الديمقراطية ، مصدر السلطة السياسية .

وهذا بدوره لن يتحقق إلا أصبحت شعوب المنطقة برمتها ( الشعوب العربية ، الشعب الكردي ، الشعب الأسرائيلي ، والآشوري ، والتركي ، والإيراني ، والأمازيغي ، والقبطي ) ، والفئات والطوائف المرتبطة بها ، صاحب القرارات السيادية ، وحصلت على فرصة أكيدة للحوار والتحاور فيما بينها .
كما إن الشرط الموضوعي التاريخي ، وفق السمة السائدة ، يقتضي ، علاوة على محتوى الديمقراطية كضرورة تاريخية ، مفهوم السلم ( اللاحرب ، اللاعنف ) لكي يتمكن الرأسمال المالي أن ياخذ مداه في مسألة القروض الربوية البنكوية ، أنسجاماُ مع تطور – الحاجيات – وأزدياد عدد السكان ومفهوم الربح السريع وعلى المدى الطويل .

وأما في حال اللاأستقرار ( العنف ) فإن هذا الرأسمال لايمكن أن يكون إلا أعرجاُ .


وهذا لن يكون إذا كان القصد هو البحث عن الحلول الجزئية ، الترقيعية ، والمصالح الآنية ، والخطوات المستعجلة ، والصيغ التراضية ، فلابد إذاُ من حل شامل كامل جذري ينهي حال – الأغتراب – القسري ، ويتصالح الكل مع نفسه ، ويتصالح الكل مع الكل .

وهذا يقتضي من جملة ما يقتضي ، أن تمنح الأولوية للأقتصاد والسوسيولوجيا ، وإن تتراجع السياسة إلى المركز الثاني .
ولايمكننا أن نتحدث عن كل ذلك ، فيما إذا أستمرت أسرائيل والمنطقة العيش في حال العنف ، كما لايعقل أن تعيش أسرائيل طوال حياتها في حال حرب مع جيرانها ، وبغض النظر عن مفهوم الخطأ والصواب ، لذلك لابد تاريخياُ من أنهاء هذا النزاع ، سيما وإن المرحلة المقبلة بمحتواها الديمقراطي والرأسمال المالي ، لن تقبل بالحال المعاكسة .


وبالتوازي ، ولكي ننتقل جميعاُ إلى مرحلة جديدة ، لامناص من حل القضية الفلسطينية ، مرة وإلى الأبد ، ولاينبغي التردد في ذلك ، لأنه لو حصل هذا التردد ، لبقيت معظم مشاكل المنطقة متأججة ، مشتعلة ، سيما من قبل إيران .
لكن ، ومن الجانب المنطقي ، لامندوحة من إنهاء الدور الإيراني السلبي التام في كل المنطقة ، وينبغي أن ينحسر دورها كلياُ في العراق الذي أصبح مقاطعة إيرانية ، ناهيكم عن أستطالاتها المؤذية في سوريا ولبنان ومنطقة الخايج العربي .

فإيران كحكومة والسلطة السورية الحالية هما سبب كل الكوارث في المنطقة ، السيارات المفخخة ، صناعة العصابات والجماعات السلفية ، الأغتيالات ، الصفقات الأجرامية ، شراء الذمم .


فالمنطقة ، بدون الحكومة الإيرانية والسلطة السورية الحالية وحزب الله ، ستكون قابلة للولوج في محتوى الأستقرار التاريخي الذي، حتى الآن ، يشكو من عدم وجود ملاذ آمن يتظلل به .
وقبل أن نذهب ونلج الخصوصية السورية وطرح حل كمقترح ، لابد من ذكر نقطتين نكمل بهما حديثنا السابق .
إن مسألة وجود جماعات سلفية ، وجماعات متشددة ومتطرفة ، فالتاريخ العربي منذ البداية وحتى الآن لم تخل منها ، لكنها أزدادت في العدد نتيجة عوامل عديدة جداُ ، من أهمها – وجود السلطة السورية الحالية – واللعب على مفهوم التناقضات .

وسيتم لجم دورها وعددها إذا ما دخلنا مرحلة الديمقراطية الحقة .
ومن جانب آخر ، من المستحسن هجر سياسة ما وراء الكواليس ، ومفهوم الجماعات الموالية .

والأعتماد فقط على منطوق الوضوح والشفافية ، سيما مع القوى الشعبية والحقوقية والمدنية .
وفيما يخص الأزمة السورية تحديداُ ، والعثور على مخرج حقيقي ، أقول :
 بما إن السلطة السورية لن تترك الحكم أبداُ إلا إذا تم مسك الأشخاص بقبضة اليد وهي مستعدة أن تقتل الملايين وتعتقل الشعب كله  للبقاء على جغرافية  مهجورة .
وبما أن الشعب من جانبه لن يتنازل عن وجوده – الديمقراطية وأسقاط السلطة – حتى لو أدى ذلك إلى إبادته .
 وبما إن المرحلة الحالية لاترضى ابداٌ إلا بالتغيير الأكيد وهذا المتغير ينبغي أن يكون في السياسة ، وفي السوسيولوجيا ، وفي كل مسالك وجوانح الحياة .
وبما أن التدخل البري العسكري من الصعوبة بمكان ، من جانب دول التحالف .
وبما إن الدول العربية غير قادرة على إيجاد حل منفرد .
وبما أن تركيا لاتستطيع أن تتحرك إلا ضمن غطاء شرعي أقليمي وأممي .
وأعتقد إن المراهنة على أنقسام الجيش ، أو أنقسام السلطة ، أو عملية أنقلاب ، أو تدهور الحالة الأقتصادية ، وإزدياد حجم التظاهرات ، وربما الذهاب إلى مرحلة العصيان المدني ، قد لاتجدي نفعاُ مع هكذا سلطة ، رغم أهميتها الأكيدة ، لذلك أقترح أن يتم تأمين منطقة بأسم ملاذ آمن بقرار أممي و بأشراف دولي في المنطقة الحدودية السورية التركية ، وهذا الملاذ الآمن لابد منه وسيكون جداُ مفيداُ إذا ما أقترن بالعوامل السابقة ، إضافة إلى مسألة الضغوطات الأقتصادية والسياسية ضد كافة أشخاص السلطة السورية .
بدون منطقة – الملاذ الآمن – لايمكن لهذه السلطة أن تتنحى وعلى الأطلاق .
طبعاُ عندما نتحدث عن مفهوم الملاذ الآمن ، نتحدث عن كل تداعياتها وتبعياتها وشروطها ونتائجها ، وكذلك عن الأجراءات الموازية لها .
لكي تكتمل هذه الرؤيا ، وهي لن تكتمل أبداُ ، لإن الوضع هو خاص وعام ومتحرك ومتجدد ، لابد من القول ، ولجملة أعتبارات في الذهنية العربية ، وفي السياسة ، وفي السلوك ، وحرصاُ على ضمان المستقبل المشترك ، وعلى الوحدة الوطنية ، والمصالح العليا والحيوية ، وعلى الخصوصية لكل مكونات الشعب السوري ، إذن لابد من مفهوم يتسع لكل ذلك ، وأعتقد إنه الحل الوحيد : الفدرالية ، الأتحاد الفدرالي .
أشكركم شكراُ جزيلاُ مرة أخرى .
الناقد والباحث هيبت بافي حلبجة
لندن في 12 – 8 – 2011

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

نارين عمر تعتبر المعارضة في أية دولة ولدى الشّعوب الطريق المستقيم الذي يهديهم إلى الإصلاح أو السّلام والطّمأنينة، لذلك يتماشى هذا الطّريق مع الطّريق الآخر المعاكس له وهو الموالاة. في فترات الحروب والأزمات تكون المعارضة لسان حال المستضعفين والمغلوبين على أمرهم والمظلومين، لذلك نجدها وفي معظم الأحيان تحقق الأهداف المرجوة، وتكون طرفاً لا يستهان به في إنهاء الحروب…

محمد زيتو مدينة كوباني، أو عين العرب، لم تعد مجرد نقطة على الخريطة السورية، بل تحولت إلى رمز عالمي للصمود والنضال. المدينة التي صمدت في وجه تنظيم داعش ودفعت ثمنًا غاليًا لاستعادة أمنها، تجد نفسها اليوم أمام تحدٍ جديد وأكثر تعقيدًا. فالتهديدات التركية المتزايدة بشن عملية عسكرية جديدة تهدد بإعادة إشعال الحرب في منطقة بالكاد تعافت من آثار النزاع، ما…

بوتان زيباري كوباني، تلك البقعة الصغيرة التي تحوّلت إلى أسطورة محفورة في الذاكرة الكردية والسورية على حد سواء، ليست مجرد مدينة عابرة في صفحات التاريخ، بل هي مرآة تعكس صمود الإنسان حين يشتد الظلام، وتجسيد حي لإرادة شعب اختار المواجهة بدلًا من الاستسلام. لم تكن معركة كوباني مجرد مواجهة عسكرية مع تنظيم إرهابي عابر، بل كانت ملحمة كونية أعادت…

إبراهيم اليوسف لقد شهدت البشرية تحوُّلاً جذرياً في طرق توثيقها للحياة والأحداث، حيث أصبحت الصورة والفيديو- ولأول وهلة- الوسيلتين الرئيسيتين لنقل الواقع وتخليده، على حساب الكلمة المكتوبة. يبدو أن هذا التحول يحمل في طياته نذر موت تدريجي للتوثيق الكتابي، الذي ظل لقرون طويلة الحاضن الأمين للمعرفة والأحداث والوجدان الإنساني. لكن، هل يمكننا التخلي عن الكتابة تماماً؟ هل يمكننا أن ننعيها،…