د. محمود عباس
قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية.
التناقضات المتقصدة:
على خلفية استنادات الكاتب العديدة على مصادر مطعونة في مصداقيتها، ونقله لأحاديث تاريخية ملفقة أو تضخيم ما لا يدرج ضمن السياق التاريخي للكرد، يحاول خلق جهة ازدواجية متناقضة مبطنة لتحريف تاريخ المنطقة وتشويهها، ومن خلال التعتيم على الشخصيات الوطنية والقومية الكردية، وإحلال شخصيات كردية الأصل اشتهروا كدعاة إسلاميين، على مستوى كردستان والجغرافيات المجاورة، أو شخصيات كانت مطعونة في وطنيتهم أو جهلاء أو كانوا يتميزون بضحالة في المعرفة القومية والوطنية، تشويه الماضي الكردي والكردستاني في الجزيرة.
ومن الملفت للنظر أنه لم يكن هذا الكاتب هو الوحيد في نشر هذه الإقترافات التاريخية، بل وظفت السلطات المقتسمة لكردستان شريحة من الكتاب العروبيين العنصريين معه، وأسندتهم بدعم من مؤسساتها البحثية والثقافية، كالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات القطرية، ودعمتهم في مراكزها الإعلامية، إلى درجة تأثرت بها مجموعة من أبناء منطقة الجزيرة، خاصة البعثيين، أو المتشربين ثقافتها العنصرية. والأغرب انزلاق البعض من الكتاب الكرد إلى هذه الإشكالية، إما لضحالة معرفة طرق تناول تاريخهم المحرف أو لجهالة بأساليب تصحيحها، فأضافوا على ركام التحريف والتشويه أكوام من الأخطاء والسلبيات، والتي من خلالها سيتمكن أعداء الكرد تمرير ما يطمحون إليه، من الطعن في تاريخنا، وبإسنادات من أقلامنا الكردية، وبالتالي فصل أجزاء من كردستان عن أصلها، والتعتيم على الوجود الكردي التاريخي في الجزيرة، والبعض لتمرير هذه الأفة يستندون إلى تأويلات ذاتية تسقط أحيانا في خانة الإقترافات بالتاريخ الكردي، والتأويل فيه، وبهذه الطريقة هي كما يقول الكاتب (خالد حسين) في مقدمة كتابه (اقترافات التَّأويل) وفي الصفحة (5) ” لا تأويل بمنأى عن الخطيئة، بل إنَّ التأويل على عداوةٍ مريعةٍ مع فعل” البراءة” والحقيقة” ورغم أنه يسقطها على التأويلات الأدبية وفي الشعر تحديدا، إلا أن كلامه يشمل العموم، وحتى عندما يستخدم الباحث العربي أو الكاتب الكردي المتغافل، التأويل لغاية تضخيم أحداث تاريخية ملفقة يساعد الإعداء الإسناد عليها في طعن التاريخ، والديمغرافية الكردية في الجزيرة، وجذورها الجغرافية.
لمدى عمق تأثير هذه المعادلة على تاريخ الجزيرة الكردستانية، كان لا بد من العودة إلى صفحات سابقة من الكتاب الذي نتناوله للكاتب محمد جمال باروت، والإتيان بشهادة واضحة المعالم، كنا قد أوردناها في الحلقات الماضية، ونعيدها هنا لنسلط الضوء أكثر على ما يضمر له، مكتفين بأمثلة معروفة على مستوى كردستان والدول المقتسمة لها، والتي فيها يحرف في الكثير مما يمس العمق القومي الكردي، والتاريخ الكردي بقدر المستطاع. ففي الصفحة (211) يكتب عن ثورة الشيخ سعيد بيران، وثورته، فيقول ” أنضم الشيخ سعيد النورسي (1876-1925) الملقب بـ “”بديع الزمان” وزعيم الطريقة النقشبندية الصوفية، في 13 شباط/فبراير 1925 في سياق الاحتكاك الذي قام بين رجاله والقوات التركية التي استفزته بدعوى القبض على رجال لجأوا إليه من الملاحقة، إلى الثورة التي ستحمل في التاريخ الكردي اسم ” ثورة النورسي”. والواقع أنه أرغم على الثورة أكثر مما اختارها”” أهـ… ويتمم الكاتب، في خلطه المتقصد للتاريخ والتحريف المبطن، الحدث دامجا بين الشيخين الكرديين (النورسي والبيراني) فيقول في الصفحة ذاتها ” خلافا النخب القومية الكردية الحديثة التي وقفت ضد ” الكتائب الحميدية “” التي شكلها السلطان عبد الحميد الثاني وأعادت حكومة ” الاتحاد والترقي” هيكلتها باعتبارها وحدات مشاة خفيفة مساعدة للجيش العثماني، كان النورسي من قادة هذه الكتائب إبان عمليات الحرب العالمية الأولى”” أهـ. وهنا نشاهد كيف يغير ما بين الشخصيتين وفي معظم المراحل التاريخية اللاحقة، ليس لعدم معرفة كما نظن، بل من جهة لتشويه سمعة زعيم الثورة الكردية الشيخ سعيد بيران، ولا شك هذا ليس انتقاصا من مكانة الشيخ النورسي ” بديع الزمان” بل الكاتب بهذه الطريقة يود الطعن في الثورة والدعوة النورسية معا، لمكانة الكردي النورسي، ولدوره في تأليب المجتمع هناك على الكماليين القوميين، وهذا ما قام به عندما أنقلب فيها عليه كمال أتاتورك ونكث في وعوده للكرد، والتي يرى من خلالهم الكاتب طعنا في القومية العربية التي يطمح أن تكون الفقه الإسلامي والصوفية محصورة في العرب فقط، فيتحسس من بروز كردي في قيادة حركة إسلامية إصلاحية على مستوى الدولة الكمالية العنصرية، ومن جهة أخرى يعتم على الشخصية القومية الكردستانية الثورية المعروفة الشيخ سعيد بيران.
ولربما لوجود هذه المعضلة والأفة عند المعادين للأمة الكردية في الماضي أيضا، وكانت تدعمها السلطات المهيمنة على كردستان حينها، كالصفوية والعثمانية وسابقا الخلافة العباسية والدولة السامانية الفارسية، وتعتيمهم على تاريخ الأمة الكردية تحت حجة تطبيق مبادئ الإسلام والأمة الإسلامية، وما تم على خلفيتها من تعتيم وتحريف وتشويه على التاريخ الكردي، نبه الأمير والمؤرخ الكردي القدير شرف خان البدليسي قبل أربعة قرون، في كتابه (شرفنامه) الصفحة (51) المترجم من قبل السيد علي العوني، قائلا ” اعتزمت بمشيئة الله أن أجمع سفراً منفرداً خاصاً بهذا الموضوع، أضمنه ما أجده في التواريخ العامة من عربية وعجمية من الأخبار والروايات، وما قد سمعته وشاهدته من الوقائع والحوادث الهامة وأن أسميه باسم: شرفنامه وذلك حتى لا يبقى صيت الأسر الكردية ذات الأثر الفعال في حياة كردستان العامة في حجاب الستر والكتمان”.
وهذا ما يتطلب من الباحثين الكرد الذين يتناولون تاريخ الحركات الكردية والشخصيات الوطنية، بعدم السقوط في التأويلات الذاتية المفتقرة إلى المنطق والمصداقية، واقترافاتها كما يقول الدكتور (خالد حسين) وينتبهوا إلى أن التضخيم في الشخصيات المضمرة تصبح أفة للتاريخ الكردي، عندما تكون على حساب الشخصيات الوطنية والتي كانت لهم مكانة ودور في تطوير الفكر القومي والثقافة والروح الوطنية في المجتمع الكردستاني، والآفة هذه تعد من السلبيات التي ينتظرها الأعداء لإسناد طعناتهم في التاريخ الكردي ومن خلال الأقلام الكردية…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/4/2016