د. محمود عباس
رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي الجنرال (مارك ميلي) يعد الشخصية الثانية في البنتاغون بعد وزير الدفاع، بل وفي البعد العسكري الثاني بعد الرئيس الذي يعتبر القائد العام للجيش والقوات المسلحة.
لولا زيارته إلى إسرائيل قبل القاعدة الأمريكية في شمال شرقي سوريا، وتزامنها مع تصريح مسؤول الوزارة الخارجية عن غربي كوردستان من مدينة هولير، والذي حدد أهداف الوجود الأمريكي بأربع نقاط في شمال شرق سوريا، إلى جانب جولة وزير دفاعها في المنطقة، لكانت الزيارة مجرد روتين عسكري وتفقد لجاهزية قواعدها، ودعم لمعنويات جنوده الذين تعرضوا لهجوم من قبل درونات يقال أنها إيرانية.
لكن تتبين وعلى خلفية التركيز الإعلامي الروسي والإيراني والنظام السوري، والتصريحات الحادة لمسؤوليهم حول زيارته لمنطقة الإدارة الذاتية في سوريا بشكل خاص، على أنها تحمل سلسلة متداخلة من الرسائل ذات أبعاد إستراتيجية، تمس:
1- الصراع على أوكرانيا، على أنه صراع يشمل كل الجغرافيات التي تتواجد فيها روسيا.
2- الخطر الإيراني النووي، بغض النظر فيما إذا كانت هناك تحضيرات إسرائيلية-أمريكية لضرب منشآتها النووية أم لا، فيما لو لم تقبل إيران بشروط وكالة الطاقة النووية، القضية التي يثيرها بشكل خاص المحللين السياسيين العرب وإعلام دول الخليج، وهو تهديد لإيران باللغة العسكرية.
3- قادة العرب ومسيرة التطبيع مع نظام بشار الأسد؛ وخاصة للمنحى الذي يساق من قبل روسيا-وإيران المعادي للوجود الأمريكي في المنطقة وبشكل خاص في غربي كوردستان والتي تعتبر حاجز إستراتيجي ما بين المد الإيراني وإسرائيل.
4- الوجود الأمريكي في المنطقة الكوردية، قد تكون الزيارة مؤشرا على أن أمريكا ستزيد من قواتها وقواعدها في المنطقة الكوردية، وسترفع سوية العلاقة مع القوى الكوردية إلى المستوى الإستراتيجي، وهذه الرسالة معنونة لتركيا أيضا، المتجهة وتحت الرغبة الروسية إلى التطبيع مع نظام بشار الأسد، والابتعاد عن الناتو. كما وكان تأكيدا على أن الموقف الأمريكي من نظام بشار الأسد لن يتغير ويجب أن يعزل ويحاكم، والمطالبة بالحل السياسي لسوريا يتضمن هذين البعدين.
القوى الكوردية ليست على مستوى الصراع الدولي في المنطقة، لكنها رغم ذلك وعند الضرورة تستخدم كطرف مهم، رغم ما يتم التعتيم عليهم من قبل الدول العربية والتي تعمل على حصر أسباب الزيارة في المنشآت النووية الإيرانية، كأسلوب غير مباشر لحماية الذات من خطر التمدد الشيعي، علما أن روسيا وتركيا لم يعيرا القضية الإسرائيلية-الإيرانية وطموحها نحو صنع القنبلة النووية أهمية، بقدر ما ركزا على الوجود الأمريكي في المنطقة الكوردية. الأول يطعن في شرعية وجودها، والثاني في علاقاتها مع قوات قسد الكوردية ودعمها للإدارة الذاتية.
وفي الوقت الذي يحاول نظام بشار الأسد تسخير الوجود الأمريكي لتبرئة الذات من المجاعة والكوارث التي أحل بالشعب السوري، متهما الكورد وأمريكا على أنهما يسرقان النفط السوري. (بالمناسبة، ثلث الكمية المستخرجة من قبل الإدارة الذاتية والتي لا تزيد عن مئة ألف برميل يوميا ترسل إلى منطقة النظام، والذي كان يعاني حتى قبل الثورة السورية من دمار اقتصادي في الفترة التي كانت فيها كميات النفط المستخرج تقدر ما بين 400 إلى 700 ألف برميل، النسبة التي لم يصرح عنها النظام طوال العقدين الأخيرين قبل الثورة، للتغطية على عمليات التهريب والفساد، وبالتالي فتهمة سرقة النفط من قبل الكورد مطعون فيه من قبل نظام عنصري غارق في الفساد والإجرام).
تتبين من خلال الزيارات الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط على أنها عادت إلى الواجهة السياسية والإعلامية ثانية، بعدما غطت عليها الصراع الروسي-الأوكراني، والتي كانت مؤشراتها مرعبة إلى حدود استخدام الأسلحة الفتاكة، واحتمالات حرب عالمية ثالثة، وبأنه وبعد مرور سنة، وديمومة الصراع المذهبي والقومي والسياسي بين شعوب الشرق الأوسط، بين إسرائيل وإيران، والكورد وتركيا، والعرب، وإيران، وتركيا، أن أي صراع عالمي لن يكون بمعزل عن المنطقة ذات الثقل الاقتصادي الهائل، والتي تطفو كفتها على العديد من المناطق الساخنة في العالم، ولها تأثير مباشر على مسيرة الأحداث المرتبطة بالحرب الأوكرانية، إن كانت عن طريق منابع الطاقة، أو الثقل السياسي.
لذلك لكل طرف في الصراعات الشرق أوسطية دور وثقل على استراتيجية الصراع بين أمريكا وروسيا، وعليه فالزيارة لها تبعاتها، حتى ولم لم تظهر حاليا لكنها عملية رسم جديد لمخططات الاستراتيجية العسكرية-السياسية الأمريكية. وهو ما أدى إلى التصعيد الإعلامي من قبل كل القوى المعنية في المنطقة.
وهنا ورغم شبه انعدام للدور الكوردي مقارنة بالقوى الإقليمية ضمن الصراع الإستراتيجي، يظل له مكانته من حيث مركزه الجغرافي في المنطقة، وديمغرافيته، ودوره الواسع في القضاء على داعش، والتي تزيد من احتمالية تصعيد الاعتماد عليهم، وهو ما قد يؤدي إلى رفع مكانتهم العسكرية والسياسية في المنطقة، خاصة بعدما قلت ثقة أمريكا والناتو بتركيا، التوقعات التي دفعت بوزارة الخارجية التركية إلى استدعاء السفير الأمريكي في أنقرة (جيف فليك) طالبة منه توضيحا بشأن الزيارة، خاصة وأن القاعدة التي زارها في غربي كوردستان لا يمكن مقارنتها بأثني عشرة قاعدة لأمريكا والناتو في تركيا، ومنها قاعدة إنجرليك.
وهنا لا بد من التذكير والعودة إلى العامل الداخلي الكوردستاني والذي يجب أن يحضر ويهيئ لكل الاحتمالات، لئلا يعاد تكرار الخطأ الذي تم قبل قرن من الزمن بعد معاهدة سيفر.
الولايات المتحدة الأمريكية
5/3/2023م