الحالة الكوردية في ظلّ الوضع السوري الراهن

حسين عمر

  مع بدء الحراك السلمي، أدرك النظام مبكّراً مآلات الوضع في سوريا لجهة الأبعاد الإقليمية والداخلية التي سيتّخذها الصراع، بل سعى إلى الاستعجال في تظهير هذه الأبعاد من خلال تنشيط العامل الإقليمي عبر إدخال تحالفه مع إيران كعنصرٍ أساسي في معادلة الصراع وتفعيل البعد الطائفي الداخلي من خلال الترويج لفكرة أنّه يواجه جماعات تكفيرية متطرفة الأمر الذي أراد من خلاله التلويح بأنّ تلك الجماعات إنّما تستهدف طائفته من خلاله، ولذلك تحرّك باتجاه المكوّن الكوردي اعتقاداً منه لما لهذا المكوّن من دور على مستوى البعد الإقليمي خاصة لجهة ما يمكن أن يقدّمه على الجبهتين التركية والعراقية إذ يمكنه أن يكون سدّاً في وجه الجموح التركي من جهة وصلة وصلٍ مع الإقليم الكوردي شبه المستقلّ والقادر على التأثير في الوضع السوري من جهة أخرى، وكذلك على مستوى البعد الداخلي لجهة الاصطفافات لا المحتملة فحسب بل والحتمية في الصراع، إذ لهذا المكوّن ثقلٌ سكاني ومجتمعي وسياسي وتنظيمي ليس في المناطق الكوردية المحاذية لمعظم الحدود المشتركة مع تركيا ولجزءٍ من الحدود مع العراق بل وفي أكبر مدينتين في البلاد وسواهما.
حاول النظام في البداية اجتناب التحالف مع فرع حزب العمال الكوردستاني المتمثّل بحزب الاتحاد الديمقراطي PYD ربّما تجنّباً لتصعيد الموقف مع تركيا ورغبة في استمالتها لا استفزازها واتّجه نحو الأحزاب الكوردية الأخرى التي كانت تنضوي تحت صيغة هلامية غير مؤطّرة تنظيمياً مستعادة من عام 2004 ابّان انتفاضة آذار سُمّيت بمجموع الأحزاب الكوردية والتي ائتلفت لاحقاً في المجلس الوطني الكوردي، واتّخذ النظام إجراءات (كمرسوم إعادة الجنسية لضحايا إحصاء 1962) وأوحى بوعود لاستمالة تلك الأحزاب إلى صفّه.


على الطرف الآخر، تحرّكت المعارضة السورية باتّجاه نفس الأحزاب الكوردية وحاولت استمالتها لاعتقادها بأنّها ذات قوّة تنظيمية وازنة وموقع جغرافيّ استراتيجي يمكن استثماره في مواجهة النظام.


لكنّ تردّد هذه الأحزاب لاعتقادها بأنّ المجتمع الدولي وحليفه الإقليمي قد اتّخذ قرار إسقاط النظام من جهة وخشيتها من عدم حدوث ذلك من جهة أخرى وكذلك الموقف المتحفّظ لحليفها الكوردستاني أدّيا إلى افتقادها للمبادرة والإستراتيجية السياسية الفاعلة على الأرض واستعاضت عن ذلك باللجوء إلى تشكيل تحالف الضعفاء (المجلس الوطني) والاعتماد الكلّي على الحليف الكوردستاني لا في صياغة بنيتها الهيكلية بل وتوجّهاتها السياسية وتحالفاتها الداخلية.

وللاستدلال على ذلك، يمكن الاستشهاد بموقفها من التحالف مع الاتحاد الديمقراطي، إذ أنّها رفضت ابّان حوارات وتحضيرات انعقاد المؤتمر الوطني الأوّل، بإيحاء من الحليف الكوردستاني، منح ثلاث حصص تمثيلية للحزب المذكور لقاء أكثر من عشرة حصص لها، في حين أنّها قبلت لاحقاً، وبقرارٍ من حليفها الكوردستاني، مناصفة الحصص مع الحزب ذاته في إطار الهيئة العليا الكوردية.

  
مع تزايد حدّة التصعيد في الموقف التركي مع النظام وصولاً إلى القطيعة المعلنة معه، اتّجه هذا الأخير إلى تحالفٍ، وان لم يكن معلناً، مع الاتحاد الديمقراطي الذي يتمتّع ببنية تنظيمية وقدرات لوجستية تؤهّله للتحوّل إلى قوّة مؤثّرة في المناطق الكوردية.
تبنّى الاتحاد الديمقراطي منذ البداية إستراتيجية واضحة ارتكزت على ثلاثة عناصرأساسية:
1.

اجتناب التصادم مع النظام ان لم نقل التفاهم معه.
2.

تشخيص صراعه الأساسي مع المعارضة وتوصيفها كأداة عميلة لتركيا.
3.

قطع الطريق أمام أي حراك سياسي وجماهيري مفارق له تمهيداً لفرض هيمنته المطلقة على الساحة السياسية الكوردية.
ساهم تغاضي النظام عن نشاط الاتحاد الديمقراطي بما فيه التسليحي وإفساح المجال له للاستفادة من موارد مالية عبر الإشراف على قطاع الوقود وتوزيعه والسيطرة على المعبر الحدودي مع إقليم كوردستان والانسحاب من المقرات والمراكز الأمنية والإدارية والخدمية في بعض المدن والبلدات والقرى الكوردية كلّ هذا ساهم في مساعدة الحزب المذكور على بناء هيكليات على الأرض كسلطة بديلة عن النظام في بعض المناطق الطرفية وموازية له في مناطق أخرى إستراتيجية، وبالتالي تحجيم الأطراف الكوردية الأخرى وإضعاف دورها، ساعدته في ذلك هشاشة البنية التنظيمية والخواء السياسي وغياب روح المبادرة والفعل الجماهريين لدى تلك الأحزاب ومساعدتها بطريقة غير مباشرة لحزب الاتحاد الديمقراطي من خلال مساهمتها في لجم الحراك الشبابي الكوردي الناشئ مع بداية الحراك السلمي العامّ في سوريا.
تزايد قوّة ونفوذ الاتحاد الديمقراطي والتشكيلات السياسية والعسكرية والمدنية والخدمية المتفرعة عنه وضعف وتراجع فاعلية المجلس الوطني الكوردي شكّل عامل الخلل في علاقة المجلسين الكورديين المؤتلفين مناصفة في الهيئة العليا الكوردية التي انبثقت بموجب اتفاقية هولير التي رعاها رئيس إقليم كوردستان مسعود بارزاني وأدّى إلى شلل الهيئة وتحوّلها إلى مجرّد غطاء يستثمره مجلس شعب غرب كوردستان لشرعنة سلطته التي فرضها كأمر واقع على الأرض.

ساهمت في تعميق هذا المأزق التناقضات والخلافات بين أحزاب المجلس الوطني نفسه وظهور تكتلات في داخله أظهرها على نحو أوضح تشكيل الاتحاد السياسي الديمقراطي في مسعى لتشكيل محور يُهيمن على قرار المجلس والذي فشل، إلى هذه اللحظة على الأقلّ، في تشكيل قطب موازن لمجلس شعب غرب كوردستان بل وحتى في انجاز الوحدة الاندماجية المفترضة.
مع تزايد نفوذ التيارات الإسلامية الراديكالية والمتطرفة في صفوف المعارضة المسلّحة والتي تمثّل الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام وجبهة النصرة أبرز تشكيلاتها في البلاد عامّة وعلى تخوم المناطق الكوردية خاصّة، برزت مخاطر الاصطدام بينها وبين وحدات الحماية الشعبية YPG التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، لم تستبقها الحركة الكوردية ببناء إستراتيجية وطنية كوردية شاملة لمواجهتها.

وإذ وقع هذا الاصطدام وخاضه من الجانب الكوردي الاتحاد الديمقراطي منفرداً، مالت المعارضة السورية إلى إشاعة الانطباع بأنّها صدامات بين طرفٍ كورديٍّ وحيد مقرّبٍ من النظام وكتائب مختلفة من المعارضة السورية وكذلك اعتبرت الأحزاب الكوردية أنّ الاتحاد الديمقراطي يحتكر قرار المواجهة العسكرية ويقوم بممارستها منفرداً الأمر الذي انعكس على الأرض على هيئة انقسامٍ سياسيٍّ كوردي عمّق الشعور الشعبي بانعدام الأمن والأمان المترافق مع الوضع الاقتصادي والمعاشي المتدهور للغاية مما أشاع حالة من الهلع في المناطق الكوردية التي تجلّت في موجات النزوح الجماعي من منطقة الجزيرة نحو إقليم كوردستان وبدرجة أقلّ من منطقتي كوباني وعفرين نحو تركيا.
بدأت الآن صورة الاستقطاب الكوردي حول المحورين الإقليميين والدوليين تتضّح أكثر من أيّ وقتٍ مضى، حيث يتفاعل طرفٌ كوردي مع الحليف الإقليمي والدولي للنظام وهذا محورٌ متماسك ومتفاهم في العمق بينما يتلكأ الطرف الآخر حتى في التفاعل مع الحليف الإقليمي والدولي للمعارضة وهو محور لا يتمتّع إلى الآن بنفس درجة تماسك وتفاهم المحور الأوّل.

والحال أنّ لا سبيل إلى تجاوز هذه الحالة الكوردية التي تنذر بمخاطر إستراتيجية جمّة على مستقبل الشعب الكوردي وقضيته في سوريا وفي الإقليم إلاّ بالشروع في تجاوز واقع الانقسام السياسي الذي تعنيه الحركة الكوردية وذلك بتشكيل جبهة وطنية كوردية شاملة تقود العمل السياسي والدبلوماسي والعسكري والإداري وفق إستراتيجية وطنية كوردية تأخذ في الحسبان حقيقة الحاجة إلى التفاعل مع القضية الوطنية العامّة في سوريا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…