القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: (دموع الفرح) أهديها إلى المرأة التي أنجبتني في عيدها (أمي )

 
الخميس 21 اذار 2024


عبدالرزاق عبدالرحمن

دخل الصف..قام التلاميذ يرددون :صباح الخير يا...
-اقعدوا..اقعدوا...!جلس التلاميذ في صمت ينظرون بفضول إلى معلمهم الجديد... أحس بالذنب تجاههم...حلم لم يتحقق ترك جرحا عميقا في شغاف قلبه كان سببا في منعه لهم من قول كلمة استاذ.
ألقى بجسده الضاوي على كرسيه..أمضى ردحا من الزمن وهو على حالته... رأسه بين يديه لم ينبس ببنت شفة...غصة في الحلق منعته من ذلك ،زوبعة من الأفكار والهواجس ..من الرفض ثم الخضوع للواقع كانت تلعب بعقله وكادت تقتلعه من الجذور لولا بكاء طفلة من الصف الثاني حولت تلك الزوبعة إلى نسمة مشحونة بالحنان وملأت صدره حنينا أبويا حملته إلى تلك الطفلة يهدئها...وقد نجح في ذلك لقد كان بارعا في الدخول إلى عالم الأطفال(طالما تميز بذلك على زملائه في المعهد أيام التطبيقات العملية في المدارس الإبتدائية).


عاد عقب انتهاء الدوام ...دخل البيت،كان والده في إنتظاره...قامت أمه تستقبله وتباريح الشوق بدا واضحا على وجهها ،أمه التي طالما انتظرته حتى تكحل عينيها برؤيته استاذا تتبجح به أمام نساء القرية...ألقى عليهما السلام دون أن يجلس وتابع سيره إلى غرفته..لحظات مضت ولم يخرج إليهما 
-انهضي يا فريدة...أخبريه أنني أتضور جوعا،الساعة قاربت من الثالثة ،ورائي عمل كثير في البستان (قالها والده ثم بدأ يلف سيكارة تبغ)
دخلت أمه إلى غرفته فرأته ممدا على فراشه، أصابعه متشابكة تحت رأسه ،يحدق في السقف المتآكل ولم يكن قد خلع حتى حذائه،اقتربت منه وجلست بجانبه...مدت يدها بحنان تمسح جبينه وتفرك شعر رأسه...أمضت دقائق وهي تفعل ذلك دون أن تتحدث إليه ولم يتحدث هو أيضا،كما أنه لم يتحرك،صاح محمود من جديد بصوت متقطع بسبب السعلة:ماذا حدث لكما؟ألن تخرجو!؟لقد تأخرت!!
هزت رأسه وقالت:بني مابك...رأسك يؤلمك؟؟ لا بأس إنه يومك الأول وهم اطفال صغار وستتعود عليهم غدا..انتظرناك حتى نتغدى مع بعض،قم وبعد الغداء أجهز لك شايا..ألم تشتاق إلى شاي أمك؟
لم يتمالك نفسه..حاول كثيرا أن يغيض دمعه ولكن دون جدوى ..نزلت دمعه..دمعتان..الثالثة كانت بداية سيل من الدموع،تمنى النحيب لكن خجله منعه..
-إبني العزيز أتبكي...مابك..هل أنت مريض؟؟؟..سأخبرك أباك..
-أماه(نطقها بصعوبة وهو يمسك بيدها ...تلك الغصة كانت تمنعه من النطق،كما استقبالها له بهذه الطريقه زاد من ألمه واحساسه بالذنب وفتح جرحا عميقا في شغاف قلبه..اعتقد أنه التأم عندما ابتعد عن البيت أيام العسكرية ):إنها دموع الفرح يا أمي...اسبقيني وسأحضر حالا.
خرجت أمه بلهاء متظاهرة بأنها اقتنعت بما قاله،كما أنه أحس في نظراتها فضولا لمعرفة الحقيقة ممزوجة بقليل من الرضى...انتصب محنوقا يغسل وجهه،وقبل  أن يغسل نظر في المرآة المعلقة على الجدار يتأمل عينيه المتقرحتين (تعود ذلك كلما أحس بالحاجة للبكاء) فنشج نشيجا حارا...
صاح الأب بغضب هذه المرة:كفاك دلالا..سوف يبرد الأكل..تعال بسرعة 
خرج وجلس على المائدة واجم الوجه...حاول جاهدا أن يبدو طبيعيا ولكن بلا فائدة،لم يتناول سوى لقيمات قليلة...الحمد لله لقد شبعت...أبي لقد وعدت زميلي في المدينة أن أزوره اليوم وربما أنام عنده الليله..،نظر الوالد في زوجته وقد تملكته الحيرة،فقال وهو يفرك لحيته:لا بأس...لا بأس
-بني البس معطفك الصوفي فالجو بارد في الخارج(قالتها أمه)
لم يدر لما كذب عليهما،كذبته هذه زادت احساسه بالذنب تجاههما،ارتدى معطفه وخرج هائما على وجهه ...يداه في جيبه..يمشي وئيدا مطأطأ الرأس،أفكاره مشوشة ..متناثرة..كأوراق الخريف عندما تعصف بها الريح فتبعثرها على مفترقات طرق ،همس لنفسه:ماذا ستفعل؟هل تعيد البكالوريا ...أم تسافر خارج القطر..أم ترضى بالنصيب؟؟؟
التعليم لم يكن حلمك..كما لم يكن حلم والدك،...آآآه..لقد كان حلمه أن تصبح صيدلانيا...آآآه كم كنت أحمقا وكم هو مؤلم أن يكتشف الإنسان حماقاته بعد فوات الأوان...الحياة فرص وقد ضيعت أغلى فرصة بسبب طيشك وغبائك..فجأة انتصب شعر بدنه خوفا ،لقد اصطدام رأسه بغصن شجرة عملاقة فنزق وطاش وبدأ يضرب بيده ذاك الغصن حتى فتر قليلا،نظر حوله فوجد نفسه أمام كوخ خشبي يصعد من أعلاه دخان أسود كثيف فشعر بالبرد...بدأ يفرك يديه الدم غائب.. نفخ فيهما دون جدوى...لم يدر كم مضى من الوقت وهو يمشي...لكن الليل كان قد بدأ يغبش ..تقدم ودق الباب...فجاءه صوت متهدج من الداخل: تفضل...
فتح الباب وولج إلى الداخل فرأى شيخا جالسا إلى جانبه إبريق شاي اسود لونه من دخان الحطب الذي كان ينفخ تحته حتى يشتعل ويتوهج...اقترب يدفئ جسمه فالتفت إليه الشيخ وبدأ يتفحص وجهه..
-أهلا..أهلا..أنت ابن محمود استاذ القرية،إنك تشبه أباك..ووالدك جدير بالاحترام،لقد تعب كثيرا حتى أصبح كل إخوتك مثلك موظفين(قالها وهو يصب كأسين من الشاي)
-هه...مثلي!؟..كلا أنا أقلهم شأنا وراتبا...تستطيع أن تشتري براتبي كومة حطب ولكنك لا تستطيع أن تشتري به ما تطبخ عليه...
-لا بأس ..لا بأس يابني دعنا نشرب الشاي وأقص عليك حكاية من حكايات جدك العجوز،ثم تتحدث لي أنت فالليل طويل (شعر الشيخ بأنه يتألم فأراد أن يغير الموضوع)..
تمدد أمام وهج الحطب وبدأ يحس بدفء يسري إلى داخله ،ولم يلبث الشيخ أن يبدأ الحكاية حتى سمع شخيره...لقد غط في نوم عميق..منظره وهو مكوم جسده أثار عطف الشيخ فغطاه بلحافته واشتغل بلف سيكارته  من التبغ.
صوت في الخارج أفاقه...نهض بسرعة وتقدم من زجاج النافذة يمسح ماعليها من آثار الدخان ..كان الوقت يقارب الظهيرة ،لكن الغرفه كانت ماتزال شبه مظلمه ، فرأى الشيخ يحرث الأرض بمعوله بين أشجار الزيتون ويفتح سواقيها...نظر إلى وجهه...كان العرق يتصبب من جبينه..يمر بخده ثم يغيب حباته في لحيته البيضاء الكثيفه وفي عينيه بريق أمل ونظر إلى يديه فكانتا متشققتين لكنهما ماتزالان قويتان تجسدان صورة الصمود في وجه مصاعب الزمن،هذا المشهد دب في نفسه الحماس والنشاط...تذكر والده فانتعل حذائه وخرج راكضا :أيها الشيخ العظيم شكرا لك.. سأبقى أزورك..إلى اللقاء..(قالها وهو يلوح بيده)
عدل الشيخ ظهره قائما وبدأ يمسح عرقه،ثم لوح له بيده مقهقها .
وصل إلى شجرة الجوز العملاقه المطلة على بستان أبيه والعرق يغتسله فرأى والده نائما في ظلها وبجانبه حزام ظهره ...همس لنفسه:لابد أن التعب أنهكك أيها الأب العظيم..حمل فأسه وزنر خصره بحزام والده ...نزل إلى البستان يفلح أرضها ويقطع الأعشاب الضارة بكل قوته ...(دائما والده كان يقول له بأن الأعشاب الضارة عدوة الأشجار)...ثم يفتح السواقي والسعادة تغمر فؤاده الملكوم...
لقد بدأ يشعر براحة تسير في دمه القاني في عروقه إلى فؤاده وكأن جرحه بدأ يلتأم ،ها هو يحس بلذة العمل لأول مرة .
استيقظ الأب على زغاريد زوجته فريدة.
-ماهذا يافريدة...هل جننت؟ تزغردين كأنك في عرس حقيقي ؟ (قالها وهو لايزال ممدا).
-نعم إنه عرس حقيقي  وابنك هو العريس...تنهد الأب تنهيدة حارة وأخرج من جيبه كيس التبغ وبدأ يلف سيكارة...نادته زوجته فريدة قائلة:انظر خلفك يا محمود ...إلى الأشجار...إلى العصافير إنها تشاركنا عرس ولدنا  ،اشرأب الأب بعنقه إلى الخلف فانتصب في هلع عندما رأى الماء تجري في السواقي من شجرة إلى أخرى ..،وصلت الأم إلى شجرة الجوز ووقفت بجانب زوجها ...حطت صرة الأكل وزغردت بصوت أعلى ...التفت الإبن إليهما وركض نحوهما ...وقف أمام أمه وجثم يقبل يديها ...نظرت إلى عينيه الغارقتين بالدموع وقالت: أتبكين يا أمي!؟
-إنها دموع الفرح ياولدي ..يا استاذي العزيز..
-أجل..أعلم ذلك يا أمي الغاليه 
-وأنا  كنت أعلم أن دموعك دموع حزن يا بني..كنت أحس بك لكنني كنت أعصر قلبي حتى لا أزيد على همك.
لم يتمالك نفسه ..الموقف الذي هو فيه..حديث أمه ودموعها ...كل هذا تغلب عل خجله هذه المرة فارتمى في حضنها ينحب .  بينما الوالد كان قد أسند ظهره إلى جذع الشجرة يدخن لفافته...ارتجف شفتاه..يداه...سقطت سيكارته...رفت رموش عينيه،جاهدا أن لا يبكي (منذ عشرين عاما من زواجه لم تراه فريدة يبكي ،حتى في أصعب وأحزن المواقف ..كبريائه أبدا كان يتغلب على عاطفته وحزنه)لكنه هذه المرة وأمام هذا المشهد الذي يخلب الألباب انهارت دموعه كسيل جارف وجد له للتو منفذا من بحر هائج ...من قلب تجمعت وتراكمت فيه كل أشكال الحزن والألم ولسنين طويلة...رفع رأسه فرأى زوجته تبتسم له فابتسم لها.

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 1


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات