القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: نحـنُ الموتى... وهُمُ الأحياء

 
الأحد 18 شباط 2024


أحمـد عزيـز الحسين
 
    تأثّرت الحياةُ الزّوجيّةُ في بلداننا العربيّة بالبنية الاستبداديّة التي تُطبق على هذه البلدان، وتُمسِك بخنّاق أبنائها، فأمسَتْ معطوبةً ومتعفِّنة، ومحكومةً بالأزمات المستفحلة التي تنتج عن سياسة القهر والإذلال التي تنتهجها هذه الحكومات، وتُرخِي بثقلها على الفضاء الاجتماعيّ ككلّ، وتّجثم على صدور الأزواج والأبناء معاً، وتحول بينهم وبين الاستمتاع بحياة آمنة ومستقرّة؛ ولذلك من الصّعوبة بمكان أن تجد زوجين عربيّين يتبادلان كلمات رهيفة تنمّ عن عاطفة جيّاشة، أو يحتضنان بعضهما بلهفة وحبّ كما يفعل الشبّان أوالعشّاق في العادة.
     وفي ظني أنّ الزَّوجين العربيّين يمتلكان كغيرهما من الأزواج عاطفةً متّقدةً تؤهِّلهما للقيام بدور المحبّ أو العشيق، غير أنّ ذلك يبقى مكبوتاً ومختزَناً في صدريهما، ولا يُتاح أن يظهر على السّطح إلا نادراً بسبب الأزمات المذكورة، ونمط الحياة البطركيّ القهريّ الذي تعاني منه الأسرة العربيّة. 


    وفي ظنّي أنّ الهموم الماديّة، ونمط الحياة المتخلّف في بلداننا هما السّبب في ما نجده لدى الزوجين العربيّين من برودة عاطفيّة، ورتابة، وعزوف عن الحياة العاطفية المظلّلة بالحبّ والتّفاهم، فضلا عمّا يعانيه الزّوجان من عقابيل الفساد والاستبداد والقهر في بلدان أمسى همُّ الحكومات فيها أن تستمرّ بكلّ السُّبل الممكنة حتّى لو أفضى بها ذلك إلى قتل مواطنيها أوتهجيرهم، مع حرمانهم من حريّة الرأي والتعبير، وهكذا تحوّلت البلدان العربية إلى سجون لرعاياها، ولم تعد فضاءات للحبّ والحرية وتحقيق الذات.
      ولذلك فإنّ العربيّ، عندما يبلغ السّتينَ عاماً من عمره تنطفئُ شعلةُ التّوهُّج في داخله، ويغدو ميْتاً من الدّاخل، وتُمسِي قدرته على التّفاعُل مع الجمال والفنّ والموسيقا معدومة، وحتّى لو لم يحدث له ذلك يحكم عليه المحيطون به بالموت، وينتظرون منه أن يقوم بكلّ ما من شأنه احتقارُ ملذّات الحياة الدّنيا، والاستنامةُ إلى الهدوء، والبقاءُ في البيتِ بانتظار ملاك الموتِ الذي يمكن أن يزوره في أيّ لحظة، وعليه أن يكون مستعدّاً للقائه باسمَ الثّغر، وتغدو حياتُهُ في نظرهم مقصورةً على فعل الخير الذي سيلقى جزاءه في الجنّة الموعودة لا في الدّنيا الموؤودة؛ فإنْ قام بأيّ أمرٍ من شأنه الاحتفاءُ بالحياة، أو الإقبالُ على متعها فإنّ الآخرين ينظرون إليه شذراً، ويطلبون منه بصفاقة أن يتصرّف بما يُملِي عليه عمرُه، ولذلكَ عليه ألّا يرقص، أو يغنّي، أو يستمع إلى الموسيقا، أو يتزوّج من جديد حتّى لو فقد زوجته، أو يستنيم إلى متع الجسد، أو يقوم بالسّفر، كما ينبغي أن تكون ألوانُ ثيابه سوداءَ أو كامدة لتتناسب مع زهده واحتقاره للدّنيا ومباهجها؛ فإنّ تجرّأ وارتدى ألوانًا زاهيةً فهو يعصي أمر الرّبّ، وعليه أن يتصرّف دائماً بما يتوافق مع عمره الذي ينبغي أن يخصِّصه للصّلاة، والاعتكاف في المسجد أو الكنيسة، وعمل الخير وحسب؛ أما إذا كان امرأةً فمسؤوليّتُه تُمسِي مُضاعَفة، إذ المطلوب منه أن يهجر الحياة نهائيّاً، ويتفرّغ للعناية بالزّوج والأولاد، وتربية بالأحفاد، وتجهيز الكفن، ومكانُه المفضَّل ينبغي أن  يصبح هو البيت لايغادره إلا إلى القبر.
   نحنُ، في الواقع، نعيش في فضاء اجتماعيّ قاهر تحكمه مفاهيم اجتماعية بالية أكل عليها الدّهرُ وشرب، وينبغي أن نخرج عليها، ونخترق ما تفضي إليه على المستويات كافّة؛ لأنّها تحول بيننا وبين الحياة، هذا إذا لم تكن تشي بأننا ولجنا قبورنا ونحن أحياء دون أن ندري. أمّا الأجنبيّ فمفهومه للحياةِ مغايرٌ لمفهومنا، واحتفاؤه بملذّات جسده لاتقلّ مع تقدُّمه في السّنّ، بل إنّه قد يتفرّغ وهو عجوز لنيل المتع التي لم يُتَحْ له نيلُها وهو في مقتبل العمر، كما أنّ إقباله على الرّياضة والسّفر، وارتداء الملابس الملوَّنة، وإقامة العلاقات العاطفيّة لا يقلّ عنها وهو شابّ، بل قد يتضاعف.
     وحين كنتُ في الإمارات قبل أربع سنوات كانتْ (قرية التّراث) في أبوظبي تستقبل كلّ يوم جمعة أو سبت أفواجاً عديدة من السُّيّاح الأجانب، وكان أغلبهم من المسنِّين الذين تجاوزوا السّبعين فما فوق، وكنت أشاهدهم دائماً يرتدون ثياباً زاهية، ويمشون متخاصِرين، أو متعانقين، ينظر أحدهما إلى الآخر نظرة العاشق الولهان، وكانت ألوان وجوههم ولمعان عيونهم تعكسان الرّغبة المتّقدة التي تجيش في صدر كلّ منهم، وكنت وقتها أفرح بما أراه، وأحلم بمثله حين أغدو عجوزاً.
  والواقع إنّ الزوجين الأجنبيَّين قادران على التّمتُّع بحياة عاطفيّة متوهّجة؛ لأنّهم ، كما نعلم، متحرِّرون من ضغط الحياة الماديّة، ولديهم الرَّواتب التّقاعديّة التي توفِّر لهم فرص السّفر والتّرحال والتّمتُّع بالحياة البهيجة التي كانوا يحلمون بها، أمّا نحن العرب فنبقى محكومين بظروفنا الماديّة الصّعبة، أوبرؤية مغلوطة للحياةِ لانحيد عنها، وحتّى إذا امتلك أحدُنا المال الكافي للتّمتُّع بالحياة فإنه يبقى حريصاً على المال، ويحتفظ به خوفاً من تقلّب الأيام، وينقطع في أواخر حياته عن متع الحياة، ويزهد في الدُّنيا ومباهجها، ويغدو همُّه أن يموت زاهداً متبتّلا؛ لكأنّ الله سيغضب منه إذا عبّ من متع الدّنياواستمتع بما توافر لديه من مال وعمر. 
      وقد يكون ما روته (سوزان بريسو) في كتابها (معك) عن علاقتها بزوجها (طه حسين) أمراً غير معهود في فضائنا الاجتماعيّ العربيّ، ولم نألف مثلَه في بلداننا العربيّة، إذ ظلّت علاقتها العاطفية بزوجها موشَّحةً بعاطفة متّقدة، ولم تنطفئ أويخبُ لهيبُها طوال ستّة عقود، ولذا فإنّنا عندما نقرأ (مَعَــك) فإنّنا نواجه نصّاً باهراً واستثنائيٍّاً كتبتْهُ زوجةٌ فرنسيّةٌ عاشقةٌ في الثّمانين منْ عمرِها لتعبّرَ عن حبِّها لزوجها الذي عاشتْ معه ستّين عاماً من الحبِّ الجارفِ، واعترفَ طــه حســين بأنّه لولاها ما كانَ له أنْ يكونَ مــا (كانَــهُ). 
     ولا شكّ في أنّ النّجاح الذي كلَّل هذه العلاقة العاطفيّة النّاجحة يعود إلى المستوى الحضاريّ الذي بلغه الطرفان، وإلى الوعي الأصيل الذي تسلَّحا به، وهو وعيٌ أتاح لعربيٍّ وأجنبيّة، أن يقيما علاقة زوجية ناجحةً تنهض على الاختلاف، وتقوم على التّفاهم والحبّ في الوقت نفسه، وتخترق ما هو شائع ومعهود في سياقيّين ثقافيّين وحضاريّين مُتغايِرين، هما : السّياق الفرنسيّ المسيحيّ، والسّياق العربيّ المسلم. 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب سوريّ

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 4.75
تصويتات: 4


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات