هوشنك بروكا
بداية لا بدّ من القول، بأنّ المعارضات السورية في الخارج تثبت يوماً إثر آخر تخلفها عما يجري من حراك جماهيري خارج ـ إيديولوجي، في الداخل السوري، فضلاً عن فشلها في رسم خارطة طريق واضحة المعالم، لسوريا ما بعد الأسد.
هذه المعارضات الكلاسيكية، الميتة في غيتوهاتها وإيديولوجياتها، تثبت مؤتمراً إثر آخر، أن لا إجماع حقيقي بينها، سوى شيءٍ واحد فقط، ألا وهو إسقاط النظام.
ربما سيقول قائل من أهل المعارضات هؤلاء، بأن الإختلاف حالة صحية، وهو إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على الخروج من اللون الواحد، إلى اللون الكثير أو المتعدد، وهذا صحيح مئة في المئة، ولكن اللاصحيح في هذا الإختلاف، هو أنه اختلافٌ يفضي في النهاية إلى الخلاف، واللإتفاق، واللاوفاق، كما حدث بالأمس في مؤتمر إستانبول، وهذا يضعف من موقف هذه المعارضات تجاه النظام السوري، ويخدم أجندات هذا الأخير في تفرقتها، أكثر من خدمته لأجنداتها في وحدتها.
الكلّ المعارض سورياً متفقٌ إذن على “إسقاط النظام” فقط، فيما عدا ذلك، يمكن القول، بأن ما هو موضع اختلاف وخلاف بين أقطاب هذه المعارضات، يفوق بكثير ما هو محل اتفاق ووفاق.
لهذا نسمع جعجعة مؤتمراتٍ كثيرة تعقد في عاصمةٍ هنا، وأخرى هناك، من دون طحين.
كلّ يبكي في مؤتمره على ليلاه.
أما المواطن السوري المكتوي بنار الديكتاتورية منذ أكثر من أربعة عقودٍ، فليس له إلا السقوط في المزيد من الديكتاتوريات، والإيديولوجيات، واللاديمقراطيات، ونيرانها في دنيا السياسة وآخرتها.
ما جرى في مؤتمر استانبول(بعد عدة مؤتمرات ولقاءات تشاورية أخرى، عقدت في استانبول1 وأنطاليا وبروكسل وباريس وبون) من مناقشاتٍ ومناكفات وصراعات، بين المعارضات السورية، بمختلف تياراتها وأجنداتها، لا يمكن اعتباره محض صدفة، أو مجرد “صراع على الكراسي”، على حدّ تعبير المعارض السوري المعروف، رئيس مؤتمر استانبول، هيثم المالح، وإنما كان صراعاً على القادم من سوريا، والقادم من خريطتها، والقادم من إسمها، وهويتها، وشكل دولتها، وديمقراطيتها، ومدنيتها، وحريتها.
ما جرى في إستانبول أمس، بين المعارضين السوريين، المتفقين جداً على “إسقاط النظام”، والمحتلفين جداً وأيضاً، على ما بعده من سوريا قادمة، ليس مجرد اختلاف أو خلاف “عابر”، وإنما هو “خلافٌ في الصميم”؛ خلاف في الأساس السوري، وعلى الأساس، وفي صلب الأساس.
أنه خلافٌ على سوريا من الأساس إلى الأساس؛ سوريا من أين إلى أين، وممّن إلى من.
أنه خلافٌ على “كيف ستكون سوريا”، و”إلى أين ستمضي سوريا”، و”لمن يجب أن تكون سوريا”؟
لم يعد خافياً على أحد من المهتمين والمعنيين بالشأن السوري، بأنّ كلّ المؤتمرات التي عقدت حتى الآن، تحت إسم المعارضة السورية، هي “مؤتمرات تكتلات”، تعكس رؤية بعض المعارضات السورية، دون كلها.
وهو الأمر الذي يعكس تخندق المعارضات السورية، في أكثر من “خندق معارض”، ويعكس بالتالي، اختلافها على صورة القادم من سوريا، الذي من المفترض به أن يكون قادماً ديمقراطياً تعددياً مدنياً علمانياً، بقدر معارضتها لحاضر سوريا الديكتاتوري.
هذه المعارضات المتفقة على إسقاط النظام، والمختلفة على ما بعده، لا يزال دخولها إلى المؤتمرات هو كخروجها منها، من دون الوصول إلى صورة واضحة المعالم، لشكل القادم من الدولة السورية، ونظامها السياسي الجديد.
من يتابع أحوال وأخبار مؤتمرات المعارضات السورية، التي تنعقد في الخارج، سيكشف من طبيعة تشكيلاتها وتكتلاتها وتخندقاتها وأجنداتها الجاهزة، غير القابلة للنقاش والحوار، بأن أهل هذه المعارضات، رغم اتفاقهم على “إسقاط ديكتاتور”، لكنهم لم يسقطوا الديكتاتور في دواخلهم بعد.
فالديكتاتورية واحدة، ولكن الطريق إليها كثيرٌ ومتعدد.
هؤلاء الذين يريدون لديكتاتورٍ أن يسقط، لا يزالون أسرى ديكتاتوريات أيديولوجياتهم، وكلاسيكيات وطنياتهم، التي أكل الزمن عليها وشرب.
ما جرى أمس في مؤتمر “الظل” السوري في استانبول، من دخولٍ في “أنقاذ سوريا” وخروجٍ مضادٍ عنه وعليه، أثبت مرةً أخرى فشل المعارضات السورية، في العبور إلى سوريا جديدة، ديمقراطية تعددية مدنية ممكنة، ليس لأن الزمان والمكان السوريين لا يسمحان بذلك، وإنما لأن هاته المعارضات نفسها، لا تزال تعيش في الوراء؛ وراء سوريا الشعب والعالم، تحت هذه الحجة الآيديولوجية أو تلك، وتحت هذا المبرر القومي، أو الديني(الأكثري) أو ذاك.
خروج الأكراد أمس من مؤتمر استانبول، وإعلانهم لإنسحابهم، الذي جاء رداً على تهميشهم كثاني أكبر مكوّن سوري، أثبت مرةً أخرى، أنّ بعض المعارضات السورية، التي تريد للنظام السوري أن يسقط إلى الأبد، لا تزال تعيش في فلكه “الوطني”، وآيديولوجيته القومجية، المصرّة على أن تكون سورية “جمهوريةً عربية واحدة، ذات رسالةٍ خالدة”، لتصبح سوريا الموزاييك الجميل، بالتالي، كلها، بلاداً وعباداً، من العروبة وإليها، رغم أنف أعجمييها، من أكرادٍ وسريانٍ وآشوريين وتركمان وشركس.
هؤلاء المؤتمرين السوريين برروا أصرارهم أمس، على ضرورة أن تكون سوريا “جمهورية عربية واحدة”، بحجة أن الوقت “لم يحن” بعد، للدخول في “تفاصيل” القادم من سوريا.
ولكن هؤلاء أعلم، بأن الشيطان يدخل كما دائماً في التفاصيل كما يُقال.
أين الديمقراطية والتعددية والمدنية، إذن، في دولةٍ تصرّ فيها الأكثرية، على أن تكونها الأقلية: أن تكون قوميتها ودينها وآيديولوجيتها وآجندتها؟
لماذا كلّ هذا الإصرار على “الآيديولوجيا القومية”، وعلى “العروبة” عنواناً للقادم من الدولة السورية، والسوريون لم يجنوا من مشروع “الدولة العربية” تحت قيادة حزب البعث العربي الإشتراكي، المسلّط على رقابهم منذ أكثر من نصف قرنٍ، سوى المزيد من اللاوحدة واللاحرية واللاإشتراكية”، فضلاً عن السقوط المريع في المزيد من الديكتاتورية، وفخاخ الدولة البوليسية الأمنية المخابراتية؟
أين هي جامعة الدول العربية، التي من المفترض بها أن تكون جامعةً لأهل العروبة من المحيط إلى الخليج، من تراجيديا الشعب السوري(العضو الدائم في العروبة وجامعتها)، الذي تحاصر مدنه بدبابات جيش الديكتاتور، عرّاب العروبة بإمتياز، ويُقتل ويُعتقل ويُشرّد أبناءه، على مرآى ومسمع كلّ الأنظمة العربية، من أقصى العروبة إلى أقصاها؟
لا يكمن المشكل ههنا بالطبع، أن تكون عربياً أو كردياً أو أشورياً أو سريانياً، قومياً أو خارج قومياً، وإنما المشكل الأساس، هو في محاولة هؤلاء المؤتمرين المعارضين العروبيين، زجّ الوطن السوري المتعدد الكثير، سياسياً، في “عروبةٍ واحدة لا شريك لها”، عكس ما كان متفقاً عليه قبل انعقاد المؤتمر، كما تقول خطاطات المؤتمرين.
المشكلُ إذن ليس في أن تكون ذاتك، وإنما المشكل هو في أن تجبر الآخر على أن يدخلك، ويدخل “أنا”(ك)، بالتي هي أحسن(أو أسوأ)، في الوقت الذي خلقه الله، أعجمياً، ليكون في “أمةٍ مختلفة”، يتكلم بلسان أعجميٍّ مختلف.
فشلَ مؤتمر “الظل” السوري في استانبول، إذن، لأن المجتمعين، أو الأغلبية المجتمعة في ظله، أصرّت على زج سوريا ك”وطن كثير”، في سياسة “اللون الواحد”، و”الآيديولوجيا الواحدة”، المؤسسة على “عروبةٍ واحدة”، لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال، راهناً وفي هذا الزمان، اختزال سوريا الكثيرة فيها.
والعراق الكثير الجار، هو خيرُ مثالٍ، في هذا المنحى.
فشل المعارضون السوريون في استانبول، بالعبور إلى سوريا تعددية ديمقراطية مدنية، لأنهم اختزلوا كل الموزاييك السوري في “سوريا عربية واحدة”، كما تريد لها عروبة الأكثرية.
في كلّ مؤتمرات المعارضات السورية التي انعقدت حتى الآن في الخارج، تبرز قضية أو بالأحرى مشكلة رئيسية، على جداول أعمال المؤتمرين، ألا وهي طبيعة حكم القادم من سوريا: أية سوريا يريدها المعارضون، وأية سوريا يريدون لها السوريون أن تكون؟
أما جواب الأكثرية المعارضة على هذا السؤال المشكل، فهو على الدوام جوابٌ فضفاض، يسبح في فوضى المصطلحات، دون تقديم أية رؤية واضحة، عما يجب أن تكون عليها سوريا المستقبل، أو سوريا ما بعد الديكتاتور.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا تزال جماعة “الإسلام هو الحل”، بإعتبارها إحدى أكثر الجماعات والتكتلات السورية المعارضة نفوذاً وتأثيراً على ما مضت من مؤتمرات، لا تزال تركب الغموض والضبابية، وتفضل اللعب بالمصطلحات والإلتفاف عليها، كما يقتضي مصلحتها، دون تقديم أيّ جواب شافٍ على سوريا السؤال القادم: كيف سيحكم السوريون أنفسهم بأنفسهم؟
ففي الوقت الذي تقول هذه الجماعة بضرورة الإنتقال إلى “سوريا ديمقراطية تعددية مدنية”، نراها تسقط العلمانية عن ذات القادم من سوريا، وترفض أيّ فصلٍ قادم قد يحصل، بين الدين والدولة؛ أو “الدولة السماوية” و”الدولة الوضعية”.
وكأن العلمانية، ليست مبدأً من مبادئ الدولة المدنية، التي طالما يقولون أنهم يريدونها، ويسعون إليها.
هذا الرفض القاطع للعلمانية، وبالتالي رفض أيّ فصل بين “دولة الله” و”دولة العباد”، هو في أساسه إصرارٌ واضح على تفضيل الدولة الدينية على الدولة المدنية، وتجييرٌ صريح لعقل هذه الأخيرة، لنقل تلك.
رؤية البعض الأكثر من المعارضات السورية إلى قادم بلادها، ما تزال أسيرة الماضي وإشكالياته الآيديولوجية.
أنها رؤية ماضوية، سلفية، تتقاطع في الكثير من خطوطها الرئيسية، مع رؤية النظام الذي تطالب هذه المعارضات بإسقاطه.
أنها معارضات تعارض النظام في وادٍ، وتوافقه في وادٍ آخر.
هي، ضد النظام ومعه في آن.
هي، تقول بالشيء وعكسه.
تقول بالديمقراطية، وتفعل عكوسها.
تنادي بالتعددية، وتؤمن بالواحدية.
تعارض الديكتاتور في الشوارع والساحات، وتقلده في المؤتمرات.
hoshengbroka@hotmail.com
الكلّ المعارض سورياً متفقٌ إذن على “إسقاط النظام” فقط، فيما عدا ذلك، يمكن القول، بأن ما هو موضع اختلاف وخلاف بين أقطاب هذه المعارضات، يفوق بكثير ما هو محل اتفاق ووفاق.
لهذا نسمع جعجعة مؤتمراتٍ كثيرة تعقد في عاصمةٍ هنا، وأخرى هناك، من دون طحين.
كلّ يبكي في مؤتمره على ليلاه.
أما المواطن السوري المكتوي بنار الديكتاتورية منذ أكثر من أربعة عقودٍ، فليس له إلا السقوط في المزيد من الديكتاتوريات، والإيديولوجيات، واللاديمقراطيات، ونيرانها في دنيا السياسة وآخرتها.
ما جرى في مؤتمر استانبول(بعد عدة مؤتمرات ولقاءات تشاورية أخرى، عقدت في استانبول1 وأنطاليا وبروكسل وباريس وبون) من مناقشاتٍ ومناكفات وصراعات، بين المعارضات السورية، بمختلف تياراتها وأجنداتها، لا يمكن اعتباره محض صدفة، أو مجرد “صراع على الكراسي”، على حدّ تعبير المعارض السوري المعروف، رئيس مؤتمر استانبول، هيثم المالح، وإنما كان صراعاً على القادم من سوريا، والقادم من خريطتها، والقادم من إسمها، وهويتها، وشكل دولتها، وديمقراطيتها، ومدنيتها، وحريتها.
ما جرى في إستانبول أمس، بين المعارضين السوريين، المتفقين جداً على “إسقاط النظام”، والمحتلفين جداً وأيضاً، على ما بعده من سوريا قادمة، ليس مجرد اختلاف أو خلاف “عابر”، وإنما هو “خلافٌ في الصميم”؛ خلاف في الأساس السوري، وعلى الأساس، وفي صلب الأساس.
أنه خلافٌ على سوريا من الأساس إلى الأساس؛ سوريا من أين إلى أين، وممّن إلى من.
أنه خلافٌ على “كيف ستكون سوريا”، و”إلى أين ستمضي سوريا”، و”لمن يجب أن تكون سوريا”؟
لم يعد خافياً على أحد من المهتمين والمعنيين بالشأن السوري، بأنّ كلّ المؤتمرات التي عقدت حتى الآن، تحت إسم المعارضة السورية، هي “مؤتمرات تكتلات”، تعكس رؤية بعض المعارضات السورية، دون كلها.
وهو الأمر الذي يعكس تخندق المعارضات السورية، في أكثر من “خندق معارض”، ويعكس بالتالي، اختلافها على صورة القادم من سوريا، الذي من المفترض به أن يكون قادماً ديمقراطياً تعددياً مدنياً علمانياً، بقدر معارضتها لحاضر سوريا الديكتاتوري.
هذه المعارضات المتفقة على إسقاط النظام، والمختلفة على ما بعده، لا يزال دخولها إلى المؤتمرات هو كخروجها منها، من دون الوصول إلى صورة واضحة المعالم، لشكل القادم من الدولة السورية، ونظامها السياسي الجديد.
من يتابع أحوال وأخبار مؤتمرات المعارضات السورية، التي تنعقد في الخارج، سيكشف من طبيعة تشكيلاتها وتكتلاتها وتخندقاتها وأجنداتها الجاهزة، غير القابلة للنقاش والحوار، بأن أهل هذه المعارضات، رغم اتفاقهم على “إسقاط ديكتاتور”، لكنهم لم يسقطوا الديكتاتور في دواخلهم بعد.
فالديكتاتورية واحدة، ولكن الطريق إليها كثيرٌ ومتعدد.
هؤلاء الذين يريدون لديكتاتورٍ أن يسقط، لا يزالون أسرى ديكتاتوريات أيديولوجياتهم، وكلاسيكيات وطنياتهم، التي أكل الزمن عليها وشرب.
ما جرى أمس في مؤتمر “الظل” السوري في استانبول، من دخولٍ في “أنقاذ سوريا” وخروجٍ مضادٍ عنه وعليه، أثبت مرةً أخرى فشل المعارضات السورية، في العبور إلى سوريا جديدة، ديمقراطية تعددية مدنية ممكنة، ليس لأن الزمان والمكان السوريين لا يسمحان بذلك، وإنما لأن هاته المعارضات نفسها، لا تزال تعيش في الوراء؛ وراء سوريا الشعب والعالم، تحت هذه الحجة الآيديولوجية أو تلك، وتحت هذا المبرر القومي، أو الديني(الأكثري) أو ذاك.
خروج الأكراد أمس من مؤتمر استانبول، وإعلانهم لإنسحابهم، الذي جاء رداً على تهميشهم كثاني أكبر مكوّن سوري، أثبت مرةً أخرى، أنّ بعض المعارضات السورية، التي تريد للنظام السوري أن يسقط إلى الأبد، لا تزال تعيش في فلكه “الوطني”، وآيديولوجيته القومجية، المصرّة على أن تكون سورية “جمهوريةً عربية واحدة، ذات رسالةٍ خالدة”، لتصبح سوريا الموزاييك الجميل، بالتالي، كلها، بلاداً وعباداً، من العروبة وإليها، رغم أنف أعجمييها، من أكرادٍ وسريانٍ وآشوريين وتركمان وشركس.
هؤلاء المؤتمرين السوريين برروا أصرارهم أمس، على ضرورة أن تكون سوريا “جمهورية عربية واحدة”، بحجة أن الوقت “لم يحن” بعد، للدخول في “تفاصيل” القادم من سوريا.
ولكن هؤلاء أعلم، بأن الشيطان يدخل كما دائماً في التفاصيل كما يُقال.
أين الديمقراطية والتعددية والمدنية، إذن، في دولةٍ تصرّ فيها الأكثرية، على أن تكونها الأقلية: أن تكون قوميتها ودينها وآيديولوجيتها وآجندتها؟
لماذا كلّ هذا الإصرار على “الآيديولوجيا القومية”، وعلى “العروبة” عنواناً للقادم من الدولة السورية، والسوريون لم يجنوا من مشروع “الدولة العربية” تحت قيادة حزب البعث العربي الإشتراكي، المسلّط على رقابهم منذ أكثر من نصف قرنٍ، سوى المزيد من اللاوحدة واللاحرية واللاإشتراكية”، فضلاً عن السقوط المريع في المزيد من الديكتاتورية، وفخاخ الدولة البوليسية الأمنية المخابراتية؟
أين هي جامعة الدول العربية، التي من المفترض بها أن تكون جامعةً لأهل العروبة من المحيط إلى الخليج، من تراجيديا الشعب السوري(العضو الدائم في العروبة وجامعتها)، الذي تحاصر مدنه بدبابات جيش الديكتاتور، عرّاب العروبة بإمتياز، ويُقتل ويُعتقل ويُشرّد أبناءه، على مرآى ومسمع كلّ الأنظمة العربية، من أقصى العروبة إلى أقصاها؟
لا يكمن المشكل ههنا بالطبع، أن تكون عربياً أو كردياً أو أشورياً أو سريانياً، قومياً أو خارج قومياً، وإنما المشكل الأساس، هو في محاولة هؤلاء المؤتمرين المعارضين العروبيين، زجّ الوطن السوري المتعدد الكثير، سياسياً، في “عروبةٍ واحدة لا شريك لها”، عكس ما كان متفقاً عليه قبل انعقاد المؤتمر، كما تقول خطاطات المؤتمرين.
المشكلُ إذن ليس في أن تكون ذاتك، وإنما المشكل هو في أن تجبر الآخر على أن يدخلك، ويدخل “أنا”(ك)، بالتي هي أحسن(أو أسوأ)، في الوقت الذي خلقه الله، أعجمياً، ليكون في “أمةٍ مختلفة”، يتكلم بلسان أعجميٍّ مختلف.
فشلَ مؤتمر “الظل” السوري في استانبول، إذن، لأن المجتمعين، أو الأغلبية المجتمعة في ظله، أصرّت على زج سوريا ك”وطن كثير”، في سياسة “اللون الواحد”، و”الآيديولوجيا الواحدة”، المؤسسة على “عروبةٍ واحدة”، لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال، راهناً وفي هذا الزمان، اختزال سوريا الكثيرة فيها.
والعراق الكثير الجار، هو خيرُ مثالٍ، في هذا المنحى.
فشل المعارضون السوريون في استانبول، بالعبور إلى سوريا تعددية ديمقراطية مدنية، لأنهم اختزلوا كل الموزاييك السوري في “سوريا عربية واحدة”، كما تريد لها عروبة الأكثرية.
في كلّ مؤتمرات المعارضات السورية التي انعقدت حتى الآن في الخارج، تبرز قضية أو بالأحرى مشكلة رئيسية، على جداول أعمال المؤتمرين، ألا وهي طبيعة حكم القادم من سوريا: أية سوريا يريدها المعارضون، وأية سوريا يريدون لها السوريون أن تكون؟
أما جواب الأكثرية المعارضة على هذا السؤال المشكل، فهو على الدوام جوابٌ فضفاض، يسبح في فوضى المصطلحات، دون تقديم أية رؤية واضحة، عما يجب أن تكون عليها سوريا المستقبل، أو سوريا ما بعد الديكتاتور.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا تزال جماعة “الإسلام هو الحل”، بإعتبارها إحدى أكثر الجماعات والتكتلات السورية المعارضة نفوذاً وتأثيراً على ما مضت من مؤتمرات، لا تزال تركب الغموض والضبابية، وتفضل اللعب بالمصطلحات والإلتفاف عليها، كما يقتضي مصلحتها، دون تقديم أيّ جواب شافٍ على سوريا السؤال القادم: كيف سيحكم السوريون أنفسهم بأنفسهم؟
ففي الوقت الذي تقول هذه الجماعة بضرورة الإنتقال إلى “سوريا ديمقراطية تعددية مدنية”، نراها تسقط العلمانية عن ذات القادم من سوريا، وترفض أيّ فصلٍ قادم قد يحصل، بين الدين والدولة؛ أو “الدولة السماوية” و”الدولة الوضعية”.
وكأن العلمانية، ليست مبدأً من مبادئ الدولة المدنية، التي طالما يقولون أنهم يريدونها، ويسعون إليها.
هذا الرفض القاطع للعلمانية، وبالتالي رفض أيّ فصل بين “دولة الله” و”دولة العباد”، هو في أساسه إصرارٌ واضح على تفضيل الدولة الدينية على الدولة المدنية، وتجييرٌ صريح لعقل هذه الأخيرة، لنقل تلك.
رؤية البعض الأكثر من المعارضات السورية إلى قادم بلادها، ما تزال أسيرة الماضي وإشكالياته الآيديولوجية.
أنها رؤية ماضوية، سلفية، تتقاطع في الكثير من خطوطها الرئيسية، مع رؤية النظام الذي تطالب هذه المعارضات بإسقاطه.
أنها معارضات تعارض النظام في وادٍ، وتوافقه في وادٍ آخر.
هي، ضد النظام ومعه في آن.
هي، تقول بالشيء وعكسه.
تقول بالديمقراطية، وتفعل عكوسها.
تنادي بالتعددية، وتؤمن بالواحدية.
تعارض الديكتاتور في الشوارع والساحات، وتقلده في المؤتمرات.
hoshengbroka@hotmail.com