بين ضفتي دجلة رجال من زمن الكفاح النبيل

بيوار إبراهيم
دثر النبلاء بعبقك أيها التاريخ , كن لهم عوناً و معينا و مسعفا. و كأن بك أبقيتني في هذه الأرض كي أرثي رجالاتها من عهد كان فيك جميلاً و رجولياً و قوياً بما يكفي أن يثور لحقوقهم دون أن يطلبوا من أحد أو يحتاجوا إلى أحد.
ضربتني الرياح الشرقية بضفائرها القاسية و هي تحمل لي نبأ رحيل ميجر عكيد آغا.
 كنت مريضة بداء حب الوطن و إلحاح إخوتي على الخروج و بكاء أمي و كذلك بكائي على البقاءهنا. فهمت المعضلة أن الأيام لا تريد أن أغادر تراباً كان ألماس بفضل رجالاتها الذين باتوا يرحلون بهدوء و سكينة. يرحلون و هم يحملون غصات الآلام و الأوجاع في أرواحهم.
بحثت بين أرشيفي المتواضع عن رائحة ما, عن جواب يشفي غليل أسئلتي و يمزق نقاب الصمت عن الراحلين. لعنة ضياع الأشياء باتت عادة تلاحقني منذ هجرتنا الأولى من قريتنا, لكن الحظ حالفني بالعثور على كنز منزوي في زاوية حقيبة ما اختبأت بين رفوف أعوامي من الضياع و التهميش.
جميل حاجو آغا و ميجر عكيد آغا
الصورة-الكنز-  الذي وجدته تجمع جميل حاجو آغا و ميجر عكيد آغا. المشهد لم يكتمل بعد لأن التاريخ يكاد يمحو تاريخنا من ذاكرته إن لم نكن يقظين بما فيه الكفاية. مكان الصورة هو المعتقل السياسي في محافظة الحسكة و الزمان سنة 1966  حيث تم تجريد الوطن و تطويقه بحزامٍ عنصري, وزعوا أراضيه على غمريين ما كانوا بغمر لكنهم باتوا غمر بثروات الغير, و الأبطال هم جميل حاجو آغا الهفيركي  أول كوردي كتب باللغة الكوردية الأبجدية اللاتينية بعد الأمير جلادت بدرخان بشهادة الأمير ذاته.  كان معتقلاً مع مجموعة من السياسيين بسبب معارضتهم لمشروع الحزام العربي و بجانبه في الصورة ميجر عكيد آغا إذ كان بزيارة للمناضل كنعان عكيد آغا حيث كان معتقلاً هو الآخر مع رفاقه. ميجر و كنعان عكيد آغا اللذان أفنيا عمرهما في سبيل إقامة كيان كوردي أو على الأقل الحصول على حق تقرير المصير كثاني قومية في سورية. 
ما زالت ذاكرتي تخبرني عن ذلك الرجل ذو الوجه الذي يكاد يبتسم مع طفولتي عندما رافقت والدي في إحدى سفراته إلى مدينة حلب و هناك في إحدى الأمكنة رأينا رجلاً إحتضنه والدي و عيونه مبتلة. مسكت طرف سترته و سألت: أبي لماذا تبكي؟ نظر إلي و قال: عندما تكبرين ستفتخرين إنك قابلت مناضلاً بقامته.
 ذلك الرجل كان هو ذاته المناضل كنعان عكيد آغا. 
ها أنا ذا كبرت و أردد لنفسي آلاف المرات ليتني لم أكبر و لم أرى أبي و رفاق دربه الذين ناضلوا بكل بأس و شجاعة لأن الوصول إلى قاماتهم درب صعب و وعر بل أصعب من الصعب ذاته. 
 
كنعان عكيد آغا
كنعان عكيد الذي قضى جل عمره في المعتقلات لسبب واحد فقط هو هدف البحث عن حرية وطن. اليوم سنبدأ من جديد بالصراخ و العويل بين ضفتي دجلة الذي يكاد يجف ألماً و بيادرها التي تكاد تتصحر غضباً و حقولها التي تحولت إلى سعير ملتهب عمداً متعمداً.
دجلة بات يبكي جسوره الممتدة بين غربه الهادئ العاشق للسياسة المرنة  في سبيل الحصول على الحقوق المشروعة و شرقه الثوري الغاضب بدمائه و جباله و رجاله و عتاده.
عويلنا بات روايات لا تقرأ و شموس لا تطلع و كواكب منسية في بطون النجوم الثاقبة. لكن, ما زال هناك من يروي قصصاً مروية بالدم و الدموع و قتل الخوف بين الضفتين. قصص و روايات واقعية من وجوه الواقع الذي يختلس القليل من الضوء من شموس كانت بقامات رجال ما زالت مضيئة بيننا.  
في مكان ما و زمان ما, كان هناك حلم ليس بسيطاً, لكن رجالاً من زمن الكفاح النبيل حلموا به و جعلوه أبسط من الحلم ذاته. المكان كان ثورة وطن و الزمان كان زمن الوفاء لدربٍ مقدس. رجالاً حلموا لا هروباً من واقعهم بل لبناء حاضرهم و مستقبل اجيال سيأتون من بعدهم.
ضياءهم يقتحم لحظاتنا عندما نحتاج إليها في أحلك أوقات الصعاب التي تجتاحنا لأنهم كانوا أسياد لحظاتهم و أفعالهم و أقوالهم و أهدافهم. أما اليوم ليس هناك من سيد بإستثناء القلة الباقون كلهم باتوا عبيد و رهائن لأهداف الغير. كانوا أصحاب القرار بالفعل و بالفعل المضاد بالهدف و كيفية الوصول إليه ناضلوا لأجل تحويل أحلامهم و أساطيرهم إلى واقع لكن الواقع الأقسى خذلهم فتحولوا إلى ملاحم في حناجر التاريخ.
ميجر عكيد آغا, رجلُ من زمن الصبر و الكفاح لم يكن فيه للصمت مكان و لا للمنافقين  صوت و لا للخونة موطئ قدم. 
جمعني القدر بلقائه لأول مرة مذكرات جميل حاجو آغا هفيركي عندما كنت أترجمها من العربية الى الكوردية بوجود نجله الأستاذ فرهاد حاجو و الصديق الدكتور حزني حاجو الذي يبحث هو الآخر عن حرية وطن عبر ضفة أيديولوجيا مختلفة عن أيديولوجيتي.
لو استطاعت ضفتي دجلة البوح عن آثار الخطا لأولئك الرجال الذين كانوا  بمثابة جسور بين غربه الهادئ و شرقه الثائر من أجل حرية وطن لما كان للغبار ان يتراكم على أيامنا. 
على خطا الغبار سنمشي, لم يعد هناك جبال بيننا. الجبال باتت ترحل عنا جبل وراء جبل. من بات لنا غير الغبار نذر بها على أبصارنا و أبصرتنا كي نتوهم أننا نعيش في عهد المناضلين؟! يا إلهي كم هي مفردة فضفاضة لزمن مقيت يدعي الشجاعة و هو أجبن من إدعائه بكثير.
على خطا الرمال نعبر فلم يعد هناك بحار,  البحار باتت تجف بحر وراء بحر جف من سكب دموعنا الدامية و أشلائنا المتناثرة عليها و من الذين يقفون عند الحدود الفاصلة  ما بين الحقيقة والسراب و العيش بين الشاة و السكين. 
 على اطلال الوطن ثمة رسالة من الذين ألبسوا الوطن بسهوله و جباله و أنهاره  و كتبوا هذا دمنا نحن لا يحق لأحد أن يتاجر به و لا لمنافق أو كذاب أن يقسم به, هؤلاء هم رجالاتنا و بزنودهم صنعوا تاريخاً مهما إبتعد يبقى قريباً منا ليحمينا من أنفسنا و يحمي ثقافتنا و تاريخنا 
منا.
 
من اليسار: حواس نواف نايف باشا, ميجر عكيد آغا, جمشيد بصري رسول آغا جيلي
الواقفون: الشهيد نايف إبراهيم حاجو آغا و زنار محمد شريف حاجو آغا.
 
مع الأستاذ كاميران حاجو

 
مع إبن خالته د. حزني حاجو
 
في منزل العم ميجر عكيد آغا مع رفيقة دربه السيدة خيرية عبدالرحمن رسول آغا جيلي
أبناءه: الأخت رندة و الأخوة دژوار ” دجوار” و جمشيد و المغترب  هشيار غائب عن الصورة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…

نظام مير محمدي* في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، نشرت صحيفة جمهوري إسلامي الحكومية مقالاً بعنوان “الخوف من ثورة الجماهير الجائعة”، محذرة قادة النظام: “كل يوم، تتعمق الأزمة الاقتصادية؛ يزداد الفقراء فقراً، والأغنياء ثراءً، ويصبح المستنقع غير المسبوق من النخبوية الذي يجتاح مجتمعنا أكثر انتشارًا”. وسلط المقال الضوء على أن الطبقة النخبوية الجديدة “تعيش في قصور أكثر إسرافًا من قصور الشاه…

إبراهيم اليوسف   لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، في وقتنا المعاصر، منصات عالمية تتيح لجميعنا التعبير عن آرائنا، مهما كانت هذه الآراء إيجابية أو سلبية. لكن هناك ظاهرة جديدة تتجسد في ما يمكن أن نسميه “إطلاق النار الاستباقي”، وهو الهجوم أو النقد في صورته المشوهة الذي يستهدف أي فكرة أو عمل قبل أن يرى النور. لا تقتصر هذه الظاهرة على…