وجوه قامشلي التي لم تكنْها «في زيارتي السنوية إليها صيف 2019 » – 16/6

ابراهيم محمود 

16- بورتريهات وجوه   
6ً- وجه فارس، فارس زمانه الراحل
 كان ينقصه كل شيء، ولم يكن ينقصه كل شيء. أن ينال المزيد، ليمنحه لمن يستحقه. أدرك الكثير الكثير من الأمور في وسطه الكردي، وهو كردي، حط به الرحال في الخاصرة الشمالية لقامشلي مقابل نصيبين، حيث يمكنه، ويسعده كما يؤلمه النظر فيها، ويمضي إلى أبعد الأبعد منها، إذ يكون مسقط رأسه، لتنطفىء شمعة روحه وهو خمسينيٌّ عمراً، ويترك أثراً في وجدانات من عرفوه في الحي الذي استقر فيه، وقد منحهم الكثير مالاً وسنداً وحباً، دونما حساب تحزبي، فئوي. إنما حساب كردي محرَّر من كل حساب، ويعرَف باسمه الوحيد الأوحد: فارس، كما أراد. أليس استثناءاً كردياً، وجديراً بأن يسّمى ويعزّز تاريخياً 
لم ألتق بالرجل ” الفارس الـ Fêris ، إنما تعرفت عليه: اسماً ومقاماً من خلال الأقرب إليه من أي كان، في مناقبه، عن مغامراته ومخاطرها وهو يتنقل بين أمكنة كردية وخلافها، مأخوذاً بهم كردي بعيداً عن أي بوصلة جانبية على طريقة ” بطل من هذا الزمان ” حتى غيَّبه المكان، إنما ليؤبد صورته بملامحها الكردية النقية باسمها العتيد في وجدانات من جاوروه وعاشروه .
رجل كردي، وليس كأي رجل كردي، إنسانه العادي وليس العادي، حمل خريطة شعبه، جغرافيته، آماله، وآلامه في نسيجه العضوي والعقلي، دون ذلك يصعب، إن لم يكن مستحيلاً التقرب منه، أو تقديم بطاقة تعريف منه. تعرفه هولير جيداً، وقد عايش البرزانيين طويلاً، في همومهم وتطلعاتهم، وعبرهم مد بنظره إلى الشقاء الكردي، وكيفية استعادة التوازن، ولم يوقف نظره، أو بصره، وفكره في حدود جهة معينة، إنما كان يحمل أكثر من هاجس كردي، ليعذبه هذا الاختلاف، ليعلّمه هذا الاختلاف، ويستقر به المقام في قامشلي في الجانب الحدودي، بدافع ذاتي مقدَّر. نحن حصيلة آلامنا وليس آمالنا، وما أكثر الكرد الذين يتألمون، ويدفعون الثمن غالياً، لأنهم لا يتقنون لغة آلامهم، وإلا لمَا كانوا على هذه الحال. وربما كان من بعض ما يميز فارس هذا هو ما كان يؤلمه ويفهمه أنه بذلك لا يستطيع البقاء طويلاً، وهو في وسط، يقل عدد من يقدّرون فيه تحرره من التحيز الفئوي، الحزبي، التكتلي، ويكثر عدد الذين يضمرون له العداء، وينسجون تصورات يروّجون لها في الوسط الذي يعيش فيه.
قلة قليلة من كردنا لديهم هذا التفاني ذو المعاني، في التخلص من كل ما يملكه وتحويله مالاً وحباً يعطى لمن يراه جديراً به، وإسعاد من يكون على مقربة منه، أو  يسمع بأمره رجلاً أم امرأة، كما تردَّد فيه عنه، وكما تجسّد في الذين شيَّعوا جنازته يبكونه بكامل وجداناته، فلم يترك أي شيء وراءه إلا اسماً يصعب على أي كان تفعيله الاعتباري ، وبيتاً تركه لمن يهمه أمره .
لكم حاولتُ تخيله: رجلاً طويلاً فتتضاعف هيبته، ويرى عن بعد. لأنتقل إلى صورة أخرى بخيال لا يخلو من فضول تتبع الأثر: رجلاً قصيراً، أكسبَ شخصه هيبة مغايرة، رجلاً متوسط القامة، حفّز من تعرفوا إليه، أو جاوروه على النظر إلى شخصه من الداخل، أكبر مما هو عليه، يُرى من بعيد، ويُسمَع من بعيد. وتلك هي القيمة الرئيسة للمرء/ الإنسان، أبعد من نطاق الشكل كما يراهن هواة الشكل، كونهم جوَّفاً. ما أصعب أن يكون الكردي ” فارساً ” !
 ……… يتبع
7-“- وجه دوقو، إلى أي وجه ينتمي ؟ 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولات سياسية كبرى خلال العقود الأخيرة، وكان من أبرزها انهيار حزب البعث في كل من العراق وسوريا، وهو الحزب الذي حكم البلدين لعقود طويلة بقبضة حديدية وحروب كارثية اكتوت بها شعوب البلدين وشعوب المنطقة وخاصة كل من لبنان وإيران والكويت، ناهيك عن الضحايا الذين فاقت اعدادهم الملايين بين قتيل وجريح ومعتقل ومهجر، أدت تلك…

بوتان زيباري في عالمٍ يموج بين أمواج الآمال والظلمات، يقف العرب السُنة اليوم على مفترق طرق تاريخيّ يحمل في طياته مفهومات المسؤولية وجوهر الهوية. إذ تتساءل النفوس: هل ستكون سوريا جنة المواطنة المتساوية أم ميداناً لحروب أهلية لا تنتهي؟ ففي قلب هذا التساؤل تنبعث أنوار براغماتية تعلن رفض الوهم الخادع لإقامة دولة إسلامية، وفي آنٍ واحد تفتح باب السلام…

فرحان كلش بلاد مضطربة، الكراهية تعم جهاتها الأربع، وخلل في المركز وعلاقته بالأطراف، فمن سينقذ الرئيس من السلطة الفخ؟ أحمد الشرع يسير على حقل ألغام، كل لغم شكل وتفجيره بيد جهة مختلفة. في الإنتماء الآيديولوجي قريب من الأتراك، في منحى القدرة على دفع الأموال والبدء بمشروع بناء سورية في جيوب السعوديين، التمهيد العسكري لنجاح وثبته على السلطة في دمشق اسرائيلي…

أزاد فتحي خليل* منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011، شهد المجتمع الكوردي تحديات كبيرة واختبارات دائمة في ظل تلك الظروف المضطربة. لم يكن الصراع بعيدًا عن الكورد، بل كان لهم نصيب كبير من التداعيات الناتجة عن النزاع الذي استمر لعقد من الزمن. إلا أنه، في خضم هذه التحديات، برزت أيضًا بعض الفرص التي قد تعزز من مستقبلهم.