كُردستانيات 18- «زعبرة» سياسية والمرسِني والنمر

 ابراهيم محمود   

 السياسي هو من يصنع الأحداث، أما المثقف فلا
يستطيع فعل شيء ! عبارة مصاغة بهذا الشكل 
أو ما يعادلها، تُطلَق من جهات معتبَرة سياسية حزبية كردية وخاصة في الآونة
الأخيرة، ولعلّي مثل غيري طبعاً على دراية شبة تامة، من أن المطلوب من المثقف
الكردي  معرفة حده. أي يُطلب منه أن يكون
رديفاً لذاك السياسي في أفضل الحالات، ولا أتردد – بدوري- في القول بأن ذلك يمثّل
الحقيقة الصادقة فيما يجري كردياً إجمالاً. سوى أنني أستطيع التعليق بداية على ما
تقدَّم وفي ضوء ما أفهم، وبتواضع بأنه لا يعدو أن يكون ” زعبرة ” سياسية
.
إن متابعة لما يجري على الصعيد الكردي، ومن خلال اهتمامي الرئيس بروجآفا كردستان،
وبوصف الجاري سياسة، والسياسة مصرَّفة حزبياً، والحزبية صلب الأمة الكردية
وترائبها، مخاضها وقيامتها، ليلها ونهارها، ألفباؤها ومحك اختبارها، جنونها
وعقلها…الخ، كما يبدو، ما أسهل توصيف روجآفا جرّاء  المقدَّم بـ روجآفـ”ـة ”
.
هذا التوصيف تاريخ من المكابدة ” الضروس ” والتي تفصح عن تلك الاستثناءات التي
تبقي الكردي سياسياً، والسياسي بقالب حزبي مزنجر، ومن أراد معرفة كرديته ما عليه
إلا أن يتحرك في ظل الأخير، ومن هنا كان خراب الأمة، وهي لم تكن أمّة إطلاقاً في أي
يوم، ولا بأي شكل، إن اعترفنا بالمفهوم الدقيق للأمة.. لكن الإرادة التحزبية 
الكردية من هذا المدخل، تدشّن للكرد أمّة،  وتسمي الكرد شعباً، وتقرّر له لغة،
والمهمة المقدسة لمن يريد أن يكون مثقفاً أن يؤكّد ذلك، ودون هذا المخطط لا وجود لا
للمثقف ولا قيمة لأي كتابة تبتغي توصيفاً ثقافياً.
وعلي أن أعترف بداية أيضاً،
أن الكرد فيما هم عليه” أي باعتبارهم أكراداً وليسوا كرداً، كون الكرد هم الهدف
الذي يُسعى إلى تشكيله أو بلوغه ! “، لا يختلفون في المعترك السياسي الحزبي عن أي
شعب آخر في الشرق الذي لم تشرق شمس ثقافته الفعلية بعد نوعياً، لرؤية الجاري كما
ينبغي، على مستوى إدارة السلطة، وكيف يتم تمثيل الشعب، سوى أن الميزة الجديرة
بالتسمية للكرد، هي في هذا التركيز على محورية السياسة وأرضية التحزب للتعريف
بالكردي.
نعم، لم يولد الكردي الذي ينتظَر منه ظهور المثقف، بقدر ما أرّخ له
بكونه المولود ليحتفى به تحزبياً، ولتكون السياسة شأن الحزبي، مدار اهتماماته. أليس
لهذا السبب ننتقل من مأساة إلى أخرى، لتضيق بنا المأساة ذاتها في تعاظمها
؟
أبحث، في هذا السياق ، عن مثقف كردي واحد، على مستوى كردستان، وفي تاريخها
الطويل، فلا أجده، لحظة الالتزام بالمعنى الفعلي بمفهوم ” المثقف “: ذلك الكائن
المتمتع بحرية الكلام، والذي يُصغى إليه حتى النهاية . إن القائمة الكبرى من الذين
يُذكرون كردياً بصفتهم مثقفين في مناسبة ودونها، لا يلوَّح بها إلا من قبل
المندرجين في خانة السياسة الكردية المتحزبة، وهؤلاء لا يلوّحون بها إلا ليسوّغوا
لأنفسهم كل ما يقومون به، أي لجعل فشلهم المستمر عملاً بطولياً .
أقول ذلك، وأنا
أستدعي أمثلة: كيف يقرَأ ” وهل يُقرأ ؟ ”  تاريخ الاسكندر المقدوني الكبير دون
تسمية معلّمه أرسطو، ولاحقاً ” لاحقاً ” ما قام به المتنورون الفرنسيون قبل مائتي
سنة، ومثلهم مفكرو الألمان وكتابهم ؟ وهل كان لرجل مثل لينين أن يكون، هو ومن أراد
أن ” يتلينن “، لولا ماركس وأنجلس؟ وقد بعُدت المسافة ” الثقافية ”  وتباعدت مع
الزمن بين ماركس وأنجلس الحقيقيين ومن أرادوا مدحهما من الذين شوهوا مفهوم الثقافة
في مسلكهم الحزبي الضيق. ألم يكن غوركي الملهِم كثيراً بروايته ” الأم ” لمن صاروا
شيوعيين رغم خلخلة مستواها الفني، لكنها كانت مؤثرة بمحتواها السياسي؟ وليظهر رجل
شاعر ومثقف وسياسي في مفهومه، هو ماياكوفسكي مدّاحاً للينين، من باب تأمل الموعود،
وهو يسطّر عمله الشعري ” لينين “، لكنه يفصح عن خيبة أمله وفاجعته بما جرى، فيكتب ”
غيمة في سروال “، ثم ينتحر احتجاجاً على السلوك الشائن للسياسي الذي تحزّب والحزبي
الذي ” تخرَّب ” من الداخل .
وحتى بالمستوى الثقافي، ألم تكن ” جمعية خويبون ”
سنة 1927 في بنيتها مشروعاً ثقافياً، ولا بد من التشديد على بصمة جلادت بدرخان ومعه
كاميران بدرخان، لتكون ثورة آرارات شرارتها الثورية، وأن الجمعية هذه عاشت مأساتها
لانحرافها عن مسارها؟ أو ما كان الذي قام به جلادت عبر ” رسم ألفبائه ” و” هاوار” ه
” إيذاناً حداثياً بثقافة كردية، سوى أن الذي يؤتى على ذكره ويحتفى به لا يعدو أن
يكون تشويهه، لعدم سوية العلاقة بين المسمّي والمسمى ؟
هكذا كان الحال مع
نورالدين زازا المفجوع بكرديته وقد أعدِمت فيه، ليموت غريباً، ولينصب له تمثالاً ”
رغم أنفه ” من قبل من كان فاعلاً في فجيعته، ليضفي على سياسته التحزبية الخانقة،
وحتى الآن ، بُعداً ثقافياً.. ويا لها من مأساة أخرى! وتوسيع دائرة الأمثلة ممكن
هنا وهناك !
طبعاً، يمكن لأي متحمس للكردية، ومن الزاوية ” المنفرجة ” المزعومة
للحزبية الرد بأنه لا يجوز المقارنة بين الفرنسيين والألمان والروس وغيرهم والكرد،
لأسباب سياسية وتاريخية وغيرها..وهذا وارد.. إنما يسهل الرد بالمقابل ” أم تُراني
أرتّب القول كما أريد ؟ “: ولماذا نسمع هذا السياسي الحزبي ومن يتحدث في ظله، أو
وهو يتزيا بما هو فولكلوري كردياً تأكيداً على أصالة كرديته، وبنوع من التباهي: نحن
الكرد شعب عريق، وجذورنا تمتد في عمق التاريخ، فيسمّي قائمة طويلة في سلسلة
الأنساب: ميتانيين وحوريين وميديين وكَوتيين، وحتى السومريين في الواجهة…فهل من
دليل دامغ أكثر مما ذُكِر، وربما لجعل الكرد بأصلهم ” الآري ” الذي هو الآخر عنصر
أكثر مباهاة لتعزيز مكانة الكرد أكثر من الأوربي: الفرنسي، الألماني..نفسه.. ؟ أم
تُرانا بصدد المثال المفارقاتي الآخر وهو أن الأسود والنمور والفهود من فصيلة
السنوريات.. ومن المعلوم أن القطط” هذه التي ألِفناها جيداً في بيوتنا وعلى سطوح
بيوتنا وفي الأزقة.. “، هي من السنّوريات، وفي المعنى الأقرب والمتداول: السنور
قطة، لهذا: أترانا في مرتبة القطط، ولم نصبح أسوداً بعداً ، رغم أن السائد في
حماسياتنا هو ما نسمعه  هكذا:  Em êrên serê çiyane ؟. أم ترانا إزاء الطرفة
المتعلقة بأخينا ” الميرسِني ” ومحل الدعابة، والذي جعل من نمر هرَّاً، ومن باب
التعليق عليه، وهي طرافة تبرز مقدرته ليس في ترويض النمر فحسب، وإنما إنزاله درجة
دونية: أن صيَّره هرَّاً..ويا لها من فذاذة..ليصبح هذا الميرسِني ذلك السياسي
الحزبي الكردي.. والمعتبَر مثقفاً ذلك النمر وقد استحال ” هرَّاً ؟!
طبعاً لا
صلة للميرسِني بما تردد حوله، ولا شأن له بالنمر بدوره، ولأن ليس كل كردي ميرسِني،
ولا ادَّعى الميرسِني يوماً أنه يمثّل الكرد عامة، وليت الكثير من الكرد، ومن
حزبيينا بالذات تصرَّفوا مثل الميرسِني مروض النمر ومُهَرهِره..حينها لربما كان
وضعنا غير راهنه .
نعم، برؤية هذه الهرولات البعيدة عن ” الفرملات ” السياسية،
لهذه الجمهرة الكبرى من مدّعي السياسة، وممتهني الحزبية من الكرد، والكرد في منحى
آخر، في نزيف متعدد الأبعاد، وتقديمهم هنا وهناك، وفي جلسات متلفزة، ولقاءات
متلفزة، حيث ينعدم وجود أي مثقف يتكلم مختلفاً، يمكن للناظر المتابع لما يجري،
تلمُّس حجم المأساة الكردية وربما ما ينتظر الكرد أكثر، جرّاء مساومات ومنازلات
باسمهم، بعيداً عن حقيقة المستجدات، وهي في محصلتها: زعبرة سياسية !

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس هل نستطيع أن نقول أن الفيدرالية لغرب كوردستان والنظام اللامركزي في سوريا باتا أقرب إلى السراب؟ ليس فقط بسبب رفض الدول الإقليمية لها خشية من تحولات كبرى قد تعيد تشكيل المنطقة، ولا لأن الفصائل الإسلامية المتطرفة مثل هيئة تحرير الشام وحلفائها لديهم من القوة ما يكفي لفرض مشروعهم الإقصائي، بل لأن الكورد أنفسهم، وهم القوة…

إبراهيم كابان لطالما شكّل الواقع الكردي في سوريا ملفًا معقدًا تتداخل فيه العوامل الداخلية والإقليمية والدولية، حيث تسعى الأحزاب الكردية إلى تحقيق مطالبها ضمن إطار وطني، لكنها تواجه تحديات داخلية مرتبطة بالخلافات السياسية، وخارجية متصلة بالمواقف الإقليمية والدولية تجاه القضية الكردية. فهل تستطيع الأحزاب الكردية في سوريا توحيد موقفها ضمن إطار تفاوضي واحد عند التوجه إلى دمشق؟ وما هي العوامل…

اكرم حسين لاشك أن استبعاد ممثلي الشعب الكردي من أي حوار أو مؤتمر وطني سوري ليس مجرد هفوة أو إهمال عابر، بل سياسة مقصودة تُجسّد رفضاً مُضمراً للاعتراف بحقوق شعبٍ عريقٍ ساهمَ في تشكيل تاريخ سوريا وثقافتها. فالكرد، الذين يُشكّلون أحد أقدم المكونات الاجتماعية في المنطقة ، عانوا لعقود من سياسة التهميش المنظم ، بدءاً من حرمان الالاف من الجنسية…

ملف «ولاتي مه» حول مستقبل الكورد في سوريا، يُعتبر أحد الملفات الهامة التي تُناقش مستقبل الكورد في سوريا في ظل التغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة عامة وسوريا بشكل خاص. يركز هذا الملف على تحليل الأوضاع الراهنة والتحديات التي يواجهها الكورد، بالإضافة إلى استعراض السيناريوهات المحتملة لمستقبلهم في ظل الصراعات الإقليمية والدولية. يسلط الملف الضوء على أهمية الوحدة والتعاون بين مختلف…