ماهين شيخاني
في تاريخ العمارة، حجر الزاوية هو العنصر الذي يمنح البناء توازنه، حتى وإن بدا في البداية غير مهم أو غريب الشكل.
في السياسة السورية، تبدو الفيدرالية كأنها ذلك الحجر الذي يصرّ الجميع على رميه جانباً، وكأنهم لا يدركون أنهم يهدمون بأيديهم ما يحاولون تشييده.
منذ أكثر من عقد، والسوريون يتجادلون حول شكل الدولة بعد الحرب. لكن ما إن تُذكر كلمة “فيدرالية” حتى يتصبب العرق من جبين النظام والمعارضة على حد سواء، وكأنها لعنة تقسيم لا علاج لها.
الحقيقة أبسط وأقسى: الفيدرالية تعني نهاية احتكار السلطة. وهذا ما لا يريده أحد من المتحكمين بالمشهد، سواء في دمشق أو في فنادق المعارضة الفاخرة.
النظام يرفضها لأنها ستنتزع منه المركزية الحديدية التي حكم بها نصف قرن، وتفتح الباب أمام إدارة ذاتية حقيقية للمناطق.
المعارضة ترفضها لأنها تخشى أن تتحول من حاكم مركزي بديل إلى مجرد طرف ضمن أطراف متساوية.
أما القوى الإقليمية فترفضها لأنها ترى في أي حكم ذاتي كوردي شرارة قد تمتد لخرائطها الهشة.
لكن تجربة إقليم كوردستان العراق تقدّم درساً لا يمكن تجاهله.
فعلى الرغم من الرفض الشديد الذي قوبلت به الفكرة في التسعينيات، والاتهامات بأنها مقدمة للتقسيم، استطاع الإقليم ـ بعد فرض منطقة الحظر الجوي وحماية دولية ـ أن يوقف نزيف الدم ويخلق منطقة مستقرة نسبياً وسط بحر من الفوضى العراقية. ومع مرور الوقت، صار حتى خصوم الأمس يحاولون الاستفادة من تجربته، ويطرحون صيغاً مشابهة لها في مناطق أخرى.
تجربة روج آفا في شمال وشرق سوريا، رغم كل الانتقادات، أثبتت أن المجتمعات قادرة على إدارة شؤونها بعيداً عن أوامر العاصمة، وأن المرأة والفلاح والمعلم يمكنهم أن يشاركوا في القرار بدل أن يكونوا ضحايا له.
الكورد في سوريا لم يهبطوا من السماء يوم أمس، ولم يأتوا كمهاجرين مؤقتين. هم جزء أصيل من تاريخ وجغرافيا هذه البلاد. لكن منذ قرن، يُعاملون كـ”الحجر الذي لا يصلح للبناء”، أو كقطع غريبة يجب إخفاؤها تحت الطلاء.
هل يمكن لتجربة كوردستان أن تتكرر في شمال وشرق سوريا..؟.
تطبيق نموذج شبيه بإقليم كوردستان في ” روژآڤايي كوردستان ” يبدو من الناحية النظرية خياراً منطقياً، خصوصاً أن المنطقة تمتلك مقومات أساسية:
تنوع قومي وديني يشمل الكورد والعرب والسريان والآشوريين والتركمان.
إدارة محلية قائمة فعلياً منذ سنوات، تقدم التعليم والخدمات والأمن في ظل غياب شبه كامل للدولة المركزية.
موارد اقتصادية من زراعة ونفط ومياه، تسمح ببناء قاعدة مالية مستقلة نسبياً.
لكن العقبات لا تقل وضوحاً:
الرفض الإقليمي، خاصة من تركيا التي ترى أي كيان كوردي على حدودها تهديداً وجودياً.
غياب الاعتراف الدولي، ما يضع أي إدارة أمام حصار اقتصادي وسياسي خانق.
الانقسامات الداخلية بين القوى الكوردية نفسها، وبين الكورد والمكوّنات الأخرى.
ومع ذلك، أثبتت التجارب أن الفيدرالية لا تحتاج إلى اعتراف فوري كي تبدأ، بل تحتاج إلى إرادة داخلية قوية وقدرة على تقديم نموذج ناجح يخدم الناس أولاً، ويجعل الآخرين مضطرين لاحقاً للتعامل معه كأمر واقع، تماماً كما حدث مع كوردستان العراق.
في النهاية، التاريخ يعلمنا أن الأفكار التي تُرفض اليوم قد تكون هي الحل غداً.
وحين يدرك السوريون أن المركزية المطلقة لا تبني دولة، وأن التعددية لا تعني التقسيم، قد ينظرون إلى الفيدرالية كحجر الزاوية الذي تأخروا كثيراً في وضعه.
لكن… ماذا لو انتظرنا أكثر حتى ينهار البناء تماماً..؟.
عندها، سيكون الحجر المرفوض قد ضاع تحت الركام، وسنكون قد أهدرنا فرصة إنقاذ ما تبقى من وطن.