طلال محمد
في الخامس من آب/أغسطس عام 1965، شهدت روجافا – شمال سوريا – حدثاً سياسياً شكّل مفترق طرق في تاريخ الحركة الكردية السورية: انعقاد “كونفراس 5 آب” وإعلان تأسيس الحزب اليساري الكردي في سوريا. شكّل هذا الكونفراس، في لحظته التاريخية، أول إعلان رسمي لقيام حزب كردي يتبنى الفكر اليساري- الماركسي، في محاولة لتقديم بديل عن المسارات القومية السائدة آنذاك.
لكن، وبعد مضي أكثر من ستة عقود على انعقاد هذا الكونفراس، يبقى السؤال مفتوحاً: هل كان فعلاً لحظة تأسيس لوعي يساري كردي جديد، أم كان بداية لمسلسل الانقسامات الحزبية التي باتت السمة الملازمة للحياة السياسية الكردية في سوريا؟.
عُقد الكونفراس في زمن سياسي حرج. كانت سوريا خارجة لتوها من تجربة الوحدة والانفصال، فيما كانت الحركات القومية واليسارية العربية تعيش أوجها. في هذا السياق، بدأ الكرد في سوريا، الذين أسسوا أول حزب سياسي لهم عام 1957، في طرح تساؤلات جديدة حول الشكل الأمثل للنضال، وطبيعة العلاقة بين الهوية القومية والعدالة الاجتماعية، والارتباط بالقضية الكردية في الأجزاء الأخرى من كردستان.
جاء “الحزب اليساري الكردي في سوريا” ليعكس رؤية شريحة من الكوادر التي اعتبرت أن الحركات القومية الكردية التقليدية أصبحت عاجزة عن الاستجابة لتحديات المرحلة، وأن هناك حاجة إلى خطاب بديل يربط بين النضال القومي والتحرر الاجتماعي الطبقي، على أسس ماركسية واضحة.
من الناحية الفكرية، قدّم الحزب اليساري نفسه بوصفه نقطة انطلاق جديدة، تكسر الخطاب القومي التقليدي الضيق، وتتبنى قراءة طبقية للواقع الكردي. دعا الحزب إلى بناء جبهة كادحة كردية تقود النضال، ورفض التحالفات العشائرية أو الشخصانية، كما انتقد ما اعتبره “تهرباً” للأحزاب الأخرى من الصدام الحقيقي مع النظام السوري وهيمنته الشوفينية.
غير أن هذه القطيعة الأيديولوجية لم تترجم إلى قطيعة تنظيمية بناءة. فقد تكررت داخل الحزب ذاته لاحقاً نفس المشاكل البنيوية التي وسمت باقي الأحزاب: غياب الديمقراطية الداخلية، انغلاق في الخطاب، ضعف القدرة على تجديد الكادر السياسي، وانحسار الجماهيرية.
بكلمات أخرى، بدلاً من أن يشكّل الحزب حالة اختراق، أصبح لاحقاً جزءاً من البنية المأزومة نفسها التي كان يدّعي معارضتها.
رغم قوته الرمزية، فإن الكونفراس لم ينعقد نتيجة ديناميكيات جماهيرية واسعة، بل نتيجة صراع داخل النخبة الحزبية آنذاك. لم يكن التأسيس انبثاقاً طبيعياً لحركة اجتماعية واسعة، بل كان إلى حد بعيد رد فعل على نزاعات داخلية في الحزب الأم، واختلافات في التوجه الإيديولوجي والسياسي.
وعليه، فإن الحزب اليساري الكردي وُلد وهو يحمل في داخله بذور الضعف البنيوي: لم يمتلك قاعدة جماهيرية عريضة، ولم يستطع نسج تحالفات فكرية أو سياسية تُعزّز موقعه، بل دخل في حالة شبه دائمة من العزلة التنظيمية.
مع مرور الوقت، تراجعت قدرته على التأثير، سواء في انتفاضة عام 2004 أو مع بداية الثورة السورية عام 2011، إذ لم يظهر كقوة قيادية أو فاعلة في مسار الأحداث الكبرى، بل بقي في هامش التفاعلات المركزية.
مع انطلاق تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بعد 2012، وما تبعها من تحولات جذرية في بنية السلطة والمجتمع، كان من المتوقع أن تُعيد القوى اليسارية ترتيب موقعها، لكن الحزب اليساري الكردي لم يظهر كفاعل تنظيمي قوي في هذه المرحلة.
صحيح أن بعض أعضائه انخرطوا لاحقاً في هياكل الإدارة أو المجالس المدنية، لكن ذلك لم يكن نتيجة لحضور حزبي فاعل، بل كأفراد، أو كمكونات ثانوية ضمن تحالفات أوسع. وهذا يكشف عن العجز في التكيف مع المتغيرات الميدانية والفكرية التي فرضتها المرحلة.
فالخطاب اليساري الذي لم يُطوّر أدواته التنظيمية والبرامجية، ظلّ بعيداً عن الجماهير، متقوقعاً في رمزيته، غير قادر على تقديم بدائل واقعية تنافس القوى الصاعدة.
إن تقييم كونفراس 5 آب لا يمكن أن يُفصل عن النمط الذي ستتخذه الحركة الكردية لاحقاً: سلسلة لا تنتهي من الانقسامات التنظيمية، غالباً لأسباب شخصية أو أيديولوجية طفيفة، تفرز أحزاباً صغيرة، متشابهة في بنيتها، ومتفرقة في رؤيتها.
ومن هذه الزاوية، يبدو أن كونفراس 5 آب كان بالفعل أول انشقاق كردي منظم في سوريا، بمرجعية أيديولوجية معلنة، لكنه فتح الباب أمام ثقافة الانقسام بدلاً من ثقافة التعددية. فبدلاً من تأسيس حالة سياسية تجديدية، جرى تعزيز ثقافة “الذهاب إلى التأسيس بدلاً من التغيير”، وهو نمط تكرر كثيراً لاحقاً.
كونفراس 5 آب مثّل لحظة طموحة من حيث الفكرة: الربط بين العدالة الاجتماعية والنضال القومي، والانفكاك عن القوالب القومية التقليدية، ومحاولة بناء مشروع تحرري شمولي. لكنه في الوقت نفسه، كان يحمل تناقضاته البنيوية التي منعته من التحوّل إلى تيار واسع ومؤثر.
التجربة برمتها تكشف أن تأسيس حزب جديد لا يعني بالضرورة خلق بديل حقيقي، ما لم يكن هناك تحوّل عميق في البنية التنظيمية، واللغة السياسية، وآليات العمل الجماهيري. فبدون ذلك، يصبح كل انشقاق جديد مجرد تكرار لأخطاء سابقة، يرتدي قناعاً جديداً فقط.
إن الذكرى السنوية لكونفراس 5 آب لا ينبغي أن تكون مناسبة للاحتفال الشكلي، بل لحظة مراجعة نقدية شجاعة. فبدلاً من إعادة إنتاج الخطابات القديمة، يجب أن يُطرح السؤال: ماذا نريد من اليسار اليوم؟ وما الذي يجعل مشروعاً تحررياً كردياً قادراً على التفاعل مع الواقع السوري المعقّد؟ وهل يمكن بناء حركة تقدمية حقيقية دون معالجة جذور الانقسام السياسي الكردي؟
إن الوعي وحده لا يصنع التغيير، ما لم يُرفق بالشجاعة التنظيمية، والانفتاح على التجديد، والاعتراف بأخطاء الماضي.