حوران حم
لحظة الحقيقة في السياسة الأميركية تجاه سوريا
بعد أكثر من ثلاثة عشر عامًا على اندلاع الثورة السورية، ما زالت واشنطن أسيرة سياسة إدارة الأزمات بدل صياغة رؤية استراتيجية متكاملة. هذه المقاربة التي بدأت مع إدارة باراك أوباما، واستمرت بأشكال مختلفة مع ترامب وبايدن، ساهمت في خلق فراغ جيوسياسي ملأته روسيا وإيران وتركيا، ودفعت ثمنه المكونات المحلية، وفي مقدمتها الكرد، الذين كانوا الشريك الأكثر موثوقية في الحرب على الإرهاب.
منذ اللحظة التي تراجع فيها أوباما عن “الخط الأحمر” بعد استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي عام 2013، وحتى قرار ترامب المفاجئ بالانسحاب الجزئي من شمال شرق سوريا عام 2019، وصولًا إلى سياسة بايدن المتمثلة في الجمود والاكتفاء بردود الفعل، غابت عن واشنطن رؤية واضحة لمستقبل سوريا. كانت النتيجة بقاء الأزمة دون حل، وتعاظم نفوذ الخصوم، وتراجع ثقة الحلفاء المحليين في التزامات الولايات المتحدة.
لماذا الكرد شريك سياسي لا غنى عنه؟
تجربة الحرب على داعش أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أنّ الكرد، عبر قوات سوريا الديمقراطية، كانوا الشريك الأكثر فعالية في تحقيق المصالح الأمنية الأميركية. لكن مساهمتهم لم تقتصر على الجانب العسكري؛ فقد أسسوا نموذجًا إداريًا في شمال وشرق سوريا يعتمد على اللامركزية ويمنح المكونات المحلية دورًا في إدارة شؤونها.
هذا النموذج، الذي تعزز بعد كونفرانس 26/4/2025 الذي وحّد الخطاب السياسي الكردي ورسم ملامح مشروع ديمقراطي جامع، يشكل فرصة تاريخية لواشنطن إذا ما أرادت أن تنتقل بالشراكة مع الكرد من البعد العسكري الضيق إلى شراكة سياسية استراتيجية.
الكرد ليسوا مجرد قوة عسكرية؛ هم طرف يمتلك امتدادًا جغرافيًا مهمًا، وتجربة في الإدارة، وقدرة على لعب دور توازني في أي صيغة سياسية سورية جديدة. تجاهل هذه الحقيقة يعني ترك فراغ سياسي تملؤه قوى استبدادية أو متطرفة.
اللامركزية الديمقراطية… مفتاح بقاء سوريا موحدة
إنّ فكرة اللامركزية ليست مشروعًا كرديًا صرفًا، بل طرحًا وطنيًا لإنهاء نموذج الدولة المركزية الذي أنتج الاستبداد لعقود. التجارب الدولية في العراق والبوسنة وأفغانستان أظهرت أن غياب الترتيبات التوافقية يؤدي إما إلى تفكك الدولة أو إلى عودة الاستبداد بأشكال جديدة.
في سوريا، اللامركزية الديمقراطية هي الضامن الوحيد لبقاء البلاد موحدة مع احترام التنوع القومي والديني، وهي أيضًا تتماشى مع المصالح الأميركية طويلة الأمد: من مواجهة النفوذ الإيراني والروسي، إلى تأمين خطوط الطاقة والممرات البرية بين العراق وسوريا وشرق المتوسط.
ما الذي يهدد المصالح الأميركية إذا استمر الوضع الحالي؟
السياسة الأميركية القائمة على الجمود وترك الملف السوري رهينة التفاهمات الإقليمية تفتح الباب أمام ثلاثة سيناريوهات خطيرة:
1. عودة داعش أو ظهور تنظيمات أكثر تطرفًا بسبب الفراغ الأمني وتهميش القوى المحلية.
2. إعادة إنتاج النظام السوري عبر صفقات جزئية تعيد تأهيله دوليًا.
3. صعود نفوذ روسيا وإيران وتركيا في قلب الشرق الأوسط، مما يضعف موقع واشنطن التفاوضي ويقوّض مصداقية التزاماتها تجاه حلفائها.
فرصة ما زالت قائمة… لكن النافذة تضيق
أمام الإدارة الأميركية فرصة تاريخية لإعادة صياغة سياستها في سوريا على أسس جديدة:
1. إعلان التزام واضح بسوريا ديمقراطية لا مركزية فيدرالية كإطار وحيد لتحقيق الاستقرار وحماية المصالح الأميركية.
2. ترسيخ شراكة سياسية مع الكرد عبر دعم الهيئة المنبثقة عن كونفرانس 26/4/2025، واعتبارها ممثلًا جامعًا للإرادة السياسية الكردية.
3. إطلاق عملية سياسية حقيقية تضمن مشاركة جميع المكونات السورية بعيدًا عن إملاءات القوى الإقليمية أو إعادة تأهيل النظام.
4. نقل الشراكة من المستوى العسكري إلى مشروع استراتيجي شامل يدمج الأمني مع السياسي والإداري، ليكون الكرد شريكًا في صياغة المستقبل لا مجرد أداة ميدانية.
مسؤولية اللوبي الكردي في واشنطن
اللوبي الكردي الأميركي أمام مهمة تاريخية لتحويل القضية الكردية من ملف أمني إلى قضية سياسية مركزية في أي نقاش حول مستقبل سوريا. الضغط على الكونغرس والإدارة بات ضرورة وجودية لحماية المكتسبات ومنع الكرد من التحول إلى ضحية صفقات إقليمية قصيرة الأمد.
القرار الآن أم الندم لاحقًا
إنّ استمرار السياسة الأميركية الحالية يعني خسارة فرصة تاريخية لصياغة شرق أوسط أكثر استقرارًا وديمقراطية. في نهاية المطاف، سيسجّل التاريخ ما إذا كانت واشنطن قد اختارت الشجاعة والقيادة، أم التردد والخذلان.
مستقبل سوريا، واستقرار المنطقة، ومصداقية القيم الأميركية كلها على المحك. النافذة تضيق… وصنّاع القرار أمام لحظة اختيار فارقة قبل فوات الأوان.