سوريا من رهان التمكين إلى مأزق التفكك: قراءة في سياسات السلطة السورية وتحول الولاءات

المحامي حسن برو
عمل نظام البعث منذ تسلمه الحكم على إعادة تشكيل البنية الاجتماعية السورية، من خلال تقوية طبقة الفلاحين على حساب الملاكين وأصحاب المشاريع الكبرى، وذلك عبر سياسات التأميم وتوزيع الأراضي. وقد أسهم هذا التوجه في تجذير الحزب داخل الأوساط الريفية والمهمشة، في حين اضطر العديد من الملاكين إلى الهروب خارج البلاد، مما أحدث خللاً عميقاً في البنية الاقتصادية والاجتماعية التقليدية لسوريا.
ومع تهاوي التجربة الناصرية في مصر، ولاحقاً انهيار نظام صدام حسين، تراجعت مشاريع القومية العربية لصالح نظم أكثر سلطوية، كان أبرزها نظام الأسد، الذي خسر وانهى مسيرته في 8 كانون الأول 2024 والذي كان يقوم بإعادة إنتاج السلطة وفق آليات أمنية تخدم الحاكم العائلة والدائرة الضيقة. وقد استند النظام في تثبيت حكمه إلى تجنيد الفئات المهمشة، وتحديداً الفلاحين، ضمن المؤسسة العسكرية والأمنية، ما جعلهم من أكثر المدافعين عن النظام في مراحله الأولى.
إلا أن هذه الفئات ذاتها تحولت خلال سنوات الثورة (2011–2024) إلى عبء على النظام، بعد أن فقدت الثقة به وغيرت ولاءاتها أكثر من مرة، تبعاً للداعمين الإقليميين والدوليين. وكان للتيار الإسلامي السني المدعوم من تركيا وبعض دول الخليج، تأثير بالغ، تجسد لاحقاً في سيطرة هيئة تحرير الشام على العاصمة دمشق، بدعم دولي وتسهيلات أمريكية–بريطانية، وهو ما أدى إلى محاولات لفرض النموذج الإداري في إدلب على كامل الأراضي السورية.
لكن هذا النموذج ( المعتمد في ادلب)لم يكن منسجماً مع التنوع الديني والقومي في سوريا، فواجه رفضاً واسعاً. وفي مواجهة هذا الرفض، لجأت السلطة الجديدة إلى استخدام القوة بذريعة ملاحقة “الفلول”، وارتكبت مجازر بحق سكان الساحل من الطائفة العلوية، الذين كانوا يعانون من ضعف التنظيم والتهميش المتعمد من النظام السابق. ولم تنجُ هيئة تحرير الشام من المحاسبة إلا بعد توقيع اتفاق مفاجئ عُرف بـ”اتفاق العاشر من آذار” بين السيدين عبدي والشرع، والذي لم يُكتب له الاستمرار بسبب ضعف الموارد البشرية والعسكرية لدى السلطة الحاكمة.
وفي محاولة لتعويض هذا النقص، بدأت الحكومة بشراء الولاءات العشائرية التي فقدت مكانتها الاجتماعية وتأثيرها في صناعة القرار، فكانت أكثر عرضة للتقلب والارتهان للظروف المتغيرة. وقد استُخدمت هذه الولاءات مؤخراً في التحريض ضد أبناء الطائفة الدرزية في السويداء، حيث ارتُكبت مجازر تحت ذريعة مقتل بعض البدو أو العلاقة المفترضة بين الدروز وإسرائيل. وقد كشف هذا السلوك عن كمّ العداء المتراكم بين بعض المكونات العشائرية المتماهية مع الإسلام السني تجاه الأقليات السورية.
غير أن المشروع الإبادي ضد أبناء السويداء انتهى بهزيمة ساحقة، بفعل تدخل عسكري إسرائيلي مباشر، لم يقتصر على حماية المحافظة، بل طال مراكز السلطة في دمشق، من وزارة الدفاع إلى هيئة الأركان، وتُوّج ذلك بنجاح دبلوماسي في باريس، حيث جرى توقيع اتفاق بين الحكومة السورية وإسرائيل برعاية أمريكية، نصّ على:
انسحاب القوات الحكومية وقوات العشائر من المناطق الدرزية.
تسلّم القوى المحلية الدرزية مسؤولية ضبط الأمن.
خلو المحافظات الثلاث (السويداء، درعا، القنيطرة) من الأسلحة الثقيلة.
إدارة المحافظات الثلاث من خلال إدارات محلية مدنية تحت إشراف أمريكي.
إن رهان السلطة السورية على تفكيك النسيج الوطني وتحويل المكونات إلى أدوات صراع داخلي، هو رهان خاسر. فلا يمكن لأي نظام أن يستقر على قاعدة الكراهية والاقتتال الداخلي. ولذلك، فإن الخيار الوحيد للخروج من المأزق الوطني هو الحوار الجاد، والمراجعة الشاملة للإعلان الدستوري، بما يراعي الواقع السوري المتعدد، ويؤسس لحكم ديمقراطي تشاركي قائم على التمثيل الحقيقي لكافة مكونات المجتمع السوري.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…