زاكروس عثمان
لم تكن الخلافة الأموية مجرد دولة دينية توسعت بالسيف والقرآن، بل كانت – في عمقها السياسي – دولة عشائرية قامت على العصبية القبلية، واستمدت سلطتها من تحالفات قحطانية (عرب اليمن) وعدنانية (عرب الحجاز)، سرعان ما تحولت إلى أدوات في صراع أبدي على الحكم.
ففي بدايات الصراع الإسلامي-الإسلامي، ظهر ما يمكن تسميته بـ”الحزبين الكبيرين”:
– الحزب الهاشمي، ويمثله أهل بيت محمد مؤسس الاسلام وواضع حجر اساس الدولة الاسلامية، رأى الحزب أن الشرعية الدينية والسياسية يجب أن تبقى فيهم، تفرع هذا الحزب في سياقه التاريخي إلى حزب شيعي (علوي) وحزب (سني معتدل) عباسي.
– الحزب الأموي، بقيادة معاوية بن أبي سفيان، الذي بنى سلطته بالدهاء السياسي وتحالفات قبلية واسعة.
كان معاوية بارعًا في استثمار العصبية القبلية، خاصة التحالف مع قبائل كلب اليمانية، الذين شكلوا له قاعدة صلبة في الشام، ضد خصومه من القيسية العدنانيين. ومع تولية ابنه يزيد، تحولت الدولة إلى ملك عضوض، وبدأت سياسة توزيع النفوذ على أساس قبلي، حيث استُخدمت النزاعات بين القبائل لإخماد التمردات، أو لتقوية سلطات الخليفة، تبعًا لولاء القبائل.
لقد كانت تلك السياسة سيفًا ذا حدّين، إذ ما أن انهارت المعادلة القبلية حتى سقطت الدولة الأموية نفسها، على يد تحالف عابر للقومية والعشائرية قاده أبو مسلم الخراساني، تحت لواء العباسيين.
واليوم، بعد أكثر من 1300 سنة، يبدو أن الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أبو محمد الجولاني – زعيم “هيئة تحرير الشام” الارهابية – يعيد إنتاج النموذج الأموي في شكل جديد، مستندًا إلى الولاءات القبلية والطائفية لا لبناء دولة، بل لترسيخ سلطة أمر واقع تعتمد على الميليشياوية والعشائرية.
فما حصل مؤخرًا من غزوات قبائل الشوايا على مناطق الدروز في محافظة السويداء، لا يمكن عزله عن سياسات الجولاني، الذي يبدو أنه يستلهم تكتيكات الأمويين، في تأجيج التناقضات القبلية والطائفية لضرب خصومه: الكورد العلويين و الدروز، الذين يمثلون – في القراءة الرمزية – امتدادًا تاريخيًا معارضا للأمويين، كورد اليوم هم استمرار لكورد تلك الحقبة الذين ناهضوا الحكم الاموي بسبب تعصبه للقومية العربية، فيما يمثل العلويون والدروز احزاب متفرعة عن الحزب الهاشمي الرافض كليا للخلافة الأموية.
ان رهان الجولاني على العصبية القبلية ليس إلا تكرارًا لرهان الأمويين القديم، الذي أثبت فشله في نهاية المطاف. فالدولة التي تُبنى على أساس قبلي متفجر، وتُدار بالعصبيات، لا تلبث أن تتآكل من الداخل. وكما سقطت دولة بني أمية وسط فوضى الصراعات العرقية والقبلية وتقلب الولاءات، فإن مشروع الجولاني لن يختلف كثيرًا: سيكون رهانًا خاسرًا، عاجلًا أو آجلًا.
البعد الإقليمي: رهان الجولاني في مهبّ التوازنات الكبرى
ان الجولاني، في رهانه على العصبية القبلية، لا يتحرك في فراغ، بل في ساحة مكتظة بتضارب المشاريع الإقليمية والدولية. فكما كان بنو أمية يواجهون خصومهم من الداخل والخارج، كالحزب الهاشمي بجناحيه العلوي والعباسي إضافة إلى مواجهة الخراسانيين، فإن الجولاني اليوم يواجه خصومًا متعددين:
ـ الكورد قوات سوريا الديموقراطية ـ قسد الذين يشكّلون القوة العسكرية المنظمة الوحيدة في شمال شرق سورياـ Rojava، ولديهم مشروع سياسي واضح، يحظى بدعم أمريكي وغربي، يمثلون امتدادًا معاصرًا لتيار مقاومة المركز العربي الإسلامي السني السلفي التكفيري، والذي كان تاريخيًا سببًا في سقوط الدولة الأموية على يد القائد الكوردي أبو مسلم الخراساني.
ـ في المقابل، تلعب تركيا دورًا محوريًا في توجيه الصراعات بين الفصائل والقبائل في سوريا، إذ تجد في الجولاني وحكومته الارهابية أداة لضرب “قسد” ومحاصرة أي مشروع ديمقراطي أو فيدرالي في سوريا.
ـ أما إيران والتي فقدت الكثير من نفوذها في سوريا بعد سقوط نظام حليفها بشار الاسد واستيلاء تنظيم إرهابي مناهض لها على السلطة في دمشق، ربما تحاول عبر اذرعها في العراق تغذية العصبية القبلية والصراعات الطائفية في سوريا، فالصراع المسلح بين البدو والدروز يضعف السلطة الحاكمة في دمشق، ويقوي موقف الاطراف التي تدير المناطق الغير خاضعة لها.
على ما يبدو أن الجولاني، في محاولته لإحياء نموذج أُموي يعتمد على القبائل كسند عسكري ـ سياسي، يستنسخ خطأ تاريخيًا قاتلًا، متجاهلًا أن المتغيرات اليوم أعقد من أن تُدار بمنطق العشيرة والسيف، وأن الدولة، كي تصمد، تحتاج مشروعًا سياسيًا يتجاوز الطائفة والقبيلة.