على هامش سقوط تصريح باراك وسقوط حلم المتبركين به

إبراهيم اليوسف

ما يلبث المشهد السوري أن يكشف، بين خيبة وأخرى، عن هشاشة الوعي المهيمن، لا بصفته عرضاً عابراً، بل كعلامة ملازمة لحالة افتقار الإرادة المستقلة. إذ يظهر سقوط  تصريح السيد توماس باراك، كما أكدنا ذلك من قبل، وفق قراءتنا، بعكس أصحاب قراءات ارتجالية، لا بوصفه هزيمة دبلوماسية، بل كإفصاح متأخر عن تهاوي هوىً مشبوه طالما تبرقع بغطاء الوساطة. إذ لم يأتِ هذا التصريح إلا محمولاً عبر دعامات مخطّط لها، ملغومة، متخمة بتعاليم الوصاية العثمانية، متقاطعة مع ضبابية رؤية أمريكية مصلحية، يهون عليها أن تنقلب– بكل يسر– على أعمدتها الأخلاقية كما يُقلب الوجه على شاكلة الأرصدة والعملات. من هنا، فإن كل من راهن على نوايا المبعوث الأمريكي توماس باراك، وأنذر أو تباهى بتصريحاته، وسوّقها على أنها صكّ نجاة أو خلاص وطني، لم يكن إلا شريكاً في ترويج حلم مستعار، لم يُرد به أصحابه سوى تجديد “دورة الفوضى” بل “الفلتان” و”ارتكاب المذابح”، تحت غطاء مصالحة مزعومة.

إذ بدا المشروع في جوهره نتاج نزق ذاتي، لا يعوّل على أية رؤية تراعي أطراف المعادلة: ماضياً وواقعاً ومستقبلاً، كما إنها لم تكن قراءة صادقة لموازين الداخل السوري البتة، بقدر ما يتماهى مع شهوة الانقياد إلى هاجس الترويج والتوزيع الطائفي للسلطة، ليجسّد بذلك سعياً لتعويم نسخ معدّلة من الجلاد، بعد تلميع وجهه بفرشاة الخارج. ذلك أن التهديدات التي انطلقت بعد تصريحات باراك، لم تكن عفوية، بل جاءت على ألسنة كتبة وفيسبوكيين وأصحاب “بثّات” رعناء، تنشر ثقافة الكراهية، وتمتهن إعادة تدوير خطاب إعلام آل الأسد، أو تفصيل “ثورية” حديثة الصنع، سقطت فجأة من سماء 2011، من دون أية جذور سابقة، أو أي موقف وطني سوري، أو أي موقف أخلاقي أصيل.

من هنا نرى أن الذين رقصوا فرحاً بتصريحات السيد باراك، قد كشفوا عن ارتباكهم المزمن في تعريف المصلحة الوطنية، فتوسلوا مخلّصاً خارجياً، على حساب العمل بروح جامعة لبناء مشروع وطن يتساوى فيه جميعهم، وفق دستور شامل، ضامن، يكتبه جميع الأطراف، بعد أن غاب مثل هذا المشروع عن سوريا منذ إدخال صفة “العربية” للجمهورية السورية. أما ما أثار الحزن حقاً، فهو أن التصريح المريب لباراك، أسهم في تعرية الخطاب الطائفي المتطرف الذي كان يتستر برداء الأكثرية الدينية زوراً، إذ سرعان ما كشر عن أنيابه، ليعيد إلينا مشهداً بائساً، جمع بين ثقل داعش، ونزق الميليشيات، وركاكة من أطلقوا على أنفسهم اسم “ثوار العشائر”، في وقتٍ كانت فيه العشائر الأصيلة –التي أعتز بوجهها المضيء– بمنأى عن هذه الممارسات. إذ جرى تلطيخ اسم العشيرة، بوصفها إطاراً تاريخياً حافظاً للقيم والتقاليد، عبر الزجّ بمئات الأجانب من الجهاديين، ودمجهم بسذّج محليين ومخدوعين جرى التغرير بهم بخطابات الفزعة والثأر، إلى جانب عناصر ارتضوا أن يكونوا بطانة لتنظيم داعش وسواه، عن قناعة أو ارتزاق أو حتى تحت طائلة الإكراه، لتتشكل بذلك ما سُمّيت “ميليشيا العشائر” الهمجية، التي ارتكبت المجازر بعقلية العصابة لا بعقلية الدولة المنتظرة، ونفذت أجندة لا علاقة لها لا بالعشيرة، ولا بسوريا، ولا بالمظلومين.

هؤلاء الذين يدّعون امتلاك وتعريب الأرض، والوطن، والدين، والقيم، بينما يتحسّسون خناجرهم لطعن من شاركوهم خبز الوجود، في ظهورهم. إذ لم يفهموا بعد– مع الأسف الشديد– أن الهوية لا تُختزل في حلف مصطنع، بل عبر رابط وطني سوري جامع، ولا تُباع في سوق المواقف الارتجالية، حيث جاءت الاستجابة لنداء الفزعة من خلال عبارة “لبّيك”، التي يمكن أن تقال على ألسنة هؤلاء لأي قائد: الأسد، أو الشرع، أو من يأتي بعده، حتى وإن كان مناقضاً لكليهما، وهلمّ دواليك. وفي العودة إلى مرحلة زمن عبد الناصر وحتى الآن، يمكننا تتبّع الخط البياني لتوريط أمثال هؤلاء، الذين يمكن خداعهم، بشعارات رنّانة، لم تُترجم عملياً في يوم ما، في الوقت الذي نجد أبطالاً من أبناء العشائر، لطالما كانت لهم مواقفهم في مواجهة آلة الدكتاتورية، ومنهم من دفعوا حياتهم في سبيل ذلك، كما كل أشكال الفسيفساء الوطني.

إذ إن المؤلم بحق أن تجد من عرفتهم قرباً ومودة، وهم يواجهونك أو يكاتبونك بعبارات مغمّسة بماء الكراهية، تحمل رائحة العفن القوموي حين يختلط بعنصرية طائفية، متجاوزين حتى حدود الخطاب البعثي في تسلطه، أو الإسلاموي في بعض صوره التي عُرفت من قبل.

من هنا، فإنه لم يعد خافياً أن الحملة على الكرد ليست اعتباطية، بل هي مركّبة، رغم أن الكرد هم الأقرب إلى إخوتهم السوريين جميعاً: عرباً، مسيحيين، علويين، دروزاً، إسماعيليين… إلخ. إذ إنهم وقفوا، ويقفون مع كل هؤلاء الشركاء، أينما تعرّضوا لمحنة ما، كما يبدو الآن، رغم أن المظالم التي تعرّضوا لها –أي الكرد– كانت من قبل مسؤولين وأنفار في السلطة وأجهزة الأمن، منتمين لهؤلاء الشركاء، ولم يتم الانتخاء لقضيتهم على نحو شعبي، أو وطني، أو إنساني من قبل الشركاء أنفسهم، عبر المحطات المريرة الصعبة التي مرّ بها الكرد على امتداد عقود. ولهذا، فإن هذه الحملة لم تكن نوبة غضب عابرة، بل مشروعاً ممنهجاً، تُدار دوائره في أماكن معلومة، لا سيما من قبل تركيا أردوغان، التي هي أحد عناوينها، بل مختبرها، وعاصمتها، ومصنعها، كما ترتبط بسلسلة نوايا لم يكن توماس باراك إلا أحد تجلياتها، لا صانعها، بل أحد منفّذيها، سواء أكان ذلك ارتجالياً أو كمجرد رسول غير بريء.

إذ كان عليه، ومن دعموا رؤيته، إدراك أن المتنطع أو المتصدر الجديد لما يسمى “حكومة المرحلة”، السيد أحمد الشرع، لم يُستجلب بوصفه ضامناً حقيقياً للانتقال، وفق أي تاريخ نضالي سوري في مواجهة النظام، وفي الدفاع عن السوريين، رغم الزعم بأنه “محارب منذ عشرين سنة”. إذ يطرح السؤال: أي محارب كان؟ وأية حروب وطنية سورية خاضها؟ لا سيما بعد اكتشاف مجمل المحطات التي أسّسها، منذ اغتصابه السلطة، حتى الآن، ليس فيما يخص الكرد وحدهم، ولا المكونات الأخرى التي تمت مواجهتها على نحو مخطط مبارك له من قبله فحسب، علناً، رغم كل الكوابح الخارجية، ناهيك عمّا يدور في داخل أروقة نظامه العابر، ناهيك عن السنّة المعتدلين السوريين، وإن راح بعض هؤلاء يرتدي لباس التطرف، بعد هيمنته كأداة سلطوية.

فهل يمكن القبول بمن يتلطّون باسم سوريا، بعدما صعدوا فوق تلال جماجم الدروز بالسلاح، وأشرفوا على جرائم ومذابح الساحل، وهمّشوا الشعوب السورية الأصيلة من كل إدارة، واستعاضوا عنهم بأشباه قادة، بعضهم متورط بجرائم، وقد مرّوا من ممرات تركية وخليجية؟

إذ لا معنى لصياغة خطاب “المرحلة”، فيما لم يتضمّن اعترافاً، ومساءلة، ومحاسبة لمن أمر، ولمن قتل، ولمن حجب الخبز عن أطفال السويداء والساحل، ومن سلّط رماة الفتنة ضد الكرد، بدعوى محاربة “قسد”، التي تبدو –حتى الآن– أفضل من كل القوى المسلحة في سوريا، منذ حوالي نصف قرن، في أقل تقدير، لا سيما ممن ظهروا بعد 2011 بدعم تركي أو قطري. ورغم كل ما سجلناه ونسجّله عليها، من انتهاكات، واجهناها، فهي: سورية أولاً وأخيراً.

كما إن التناقض الأبرز يتمثل في إعادة تدوير مجرمي السلف في ثياب الحاضر، ممن دُمغوا سابقاً بداعش، ثم دُهنوا اليوم بألوان الاعتدال، وجرى تسويقهم عبر منابر “الثورة المسروقة” على أنهم حماة وحدة ترابية لا يعترفون بمكوّناتها.

من هنا، نؤكد أن السوري لا ينبغي له أن يقرأ المرحلة بمنظار اللحظة، ولا أن يُغرى بنعيم الوعود المعلّبة. لا شيء يسوغ القطيعة مع أي مكوّن وطني، لا ذريعة الخوف، ولا فتوى الأهواء، ولا استدعاء التاريخ على طريقة الاقتصاص. حيث من الواجب اليوم ألا يُغلق الخيط الأخير بين الكرد ومحيطهم، وبين العشائر وذاكرتهم، وبين الثورة في نسختها الأولى ومبادئها الأصلية. فالخلاص لا يُصنع من خلال تخوين رفاق الجرح، ولا باستجداء عطف التركي، الذي خرب البلاد، منذ أن بارك أول فتوى قتل علنية باسم الحرية، وافتتح أول معسكر تجميع للمرتزقة.

إن الخطاب المصنوع لباراك، والمتغنّى به كمخلّص، ما كان إلا موقفاً لا يصلح لمعالجة واقع، واستحقاقات شعوب تقبل الانضواء تحت اسم “سوريا”، فيما لم يتم فرض مجرد قومية أو دين أو أيديولوجية عليها. إذ كان عليه أن يطرح على ذاته، قبل كل شيء، مجرد تساؤل بسيط، ألا وهو: “لمن تُمنح سوريا؟” ومن ثم: “من يقرّر مصير أهلها؟” فيما إذا كان يريد بلداً معافى، قوياً، لكل السوريين، لا التأسيس لسجن وسجّان! فلا الخليج –بكل أمواله وسياساته– يمنح شرعية لمتنطع رئاسي مرفوض، ولا حقن الدبلوماسية تنقذ شعباً بلا اعتراف. إذ لا بناء لأية شرعية، إن لم تنبع من الداخل، وتُوقّع بيد الضحايا، لا السماسرة.

من هنا، فإن من نُصّب رئيساً بصفته “مسير أعمال مؤقت”، وتمكّن عبر ترتيب مريب من ترؤس مؤتمر يُدعى زوراً بالنصر، وأسّس حكومة عبر منصة “كيفية” لا حضور للشعوب السورية فيها، لا يُنتظر منه إلا المزيد من الاستبدال، لا التغيير.

إن محاولة باراك –اليوم– تصحيح وتصويب موقفه بأن “حكومة الشرع” يجب أن تُحاسب، لا يُعفيه من كونه المروّج الأبرز –وكالة أو رسولية– لهذه الحكومة، والداعم لتسويقها، والمساهم في تضليل الرأي العام بحديثه الموارب عن “عدالة التمثيل”. بل إنه يتحمّل وزر دماء السوريين، في مجازر السويداء، كما أن كل من بارك حكومة الشرع ودعمها من الخارج شريك في وزر هدر وسفك دماء الساحل.

من هنا، نطلب –لا بل نصرّ– على ألا يُؤخذ السوري رهينة لرهانات واشنطن، أو رهائن أنقرة، ولا أن يُزجّ بمفاصل الحكم أناس من بقايا اللجان ذات اللون الواحد، أو الألوان المستعدة للتماهي مع أي لون مهيمن، مهين، تحت رحمة سيوف أساطين اللحى، ممن لا يعرفون من سوريا إلا غنيمة.

إذ لا خلاص إلا بكشف الغطاء عن كنه هذا المشروع، وعن كل من تبنّاه، أو توهّم فيه نهوضاً، فالحلم الذي تبرّك به الواهمون، لم يكن سوى امتداد للكابوس ذاته، بوجه مموّه.

هكذا سقط مشروع باراك!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…