د. محمود عباس
تحرّكات الممثل الأمريكي في المنطقة العربية، واجتماعه بوزير الخارجية الأردني بحضور وزير خارجية “الحكومة السورية الانتقالية” وبعد ذلك بيومين، أي اليوم 19/7/2025 لقاءه بالجنرال مظلوم عبدي قائد قوات قسد، لم تكن خطوات عشوائية، بل بدت كجزء من خطة دقيقة تهدف إلى التغطية على الإملاءات التركية المفروضة على الجولاني وحكومته، من خلال إبعادها إعلاميًا عن مجريات الأحداث الجارية في السويداء، وقد انطوت هذه المناورات على جملة من الأهداف المتشابكة، التي عكست تعقيدات اللعبة السياسية في الملف السوري.
أولًا، كان من المتوقّع أن يُسند إلى الأردن، كدولة ذات بنية عشائرية قوية، دورٌ فاعلٌ في ضبط تحركات العشائر المشاركة في الهجمات ضد مكوّن الموحدين الدروز، خاصة أن المعلومات الاستخباراتية أشارت إلى أن بعض هذه العشائر كانت خاضعة لهيمنة فلول داعش، التي بدورها كانت تمارس الترهيب والتخويف بحقهم، مما دفع الكثيرين منهم إلى المشاركة في غزوة السويداء، ليس عن قناعة، بل تحت وطأة التهديد.
ثانيًا، بدا واضحًا أن ثمة محاولات لحصر الصراع داخل سوريا في إطار عربي–عربي، عبر تغييب الأدوار الإقليمية المؤثرة، وعلى رأسها تركيا وإسرائيل، وذلك لتجنّب إشعال مواجهة مباشرة بين الطرفين، خصوصًا بعد أن شهدت المرحلة السابقة نوعًا من التهدئة المتبادلة. هذا التعتيم الإعلامي ربما كان ضرورة تكتيكية، لكنه لم يكن بريئًا.
ثالثًا، انطوت التحركات على رغبة مضمَرة في التخفيف من وضوح الدور التركي في رسم ملامح الحكومة السورية الانتقالية، وتفادي إثارة حفيظة المكونات السورية، وخصوصًا الكورد والدروز العلويين والمسيحيين، الذين باتوا ينظرون بقلق متزايد إلى تدخلات أنقرة، والأهم، أن هذه المحاولة كانت تهدف إلى تهدئة إسرائيل وبعض المؤسسات الأمريكية الداعمة لدورها في المنطقة، والتي بدأت ترى في النفوذ التركي خطرًا موازيًا للدور الإيراني، لا سيما بعد أن تحوّلت بعض التنظيمات المتطرفة المدعومة تركيًا إلى أدوات شبيهة بميليشيات طهران.
رابعًا، سعت تلك التحركات إلى إخفاء المؤشرات المتزايدة على تورط أنقرة في تحريك فلول داعش، وتوظيفها كأداة لضرب المكونات التي تطالب بنظام لا مركزي فيدرالي، وهو ما بدا جليًا في الجرائم المرتكبة مؤخرًا بحق أبناء السويداء، فالهجوم لم يكن وليد لحظة أمنية، بل جزءًا من إستراتيجية مبيتة تستهدف إنهاء أي قوة اجتماعية أو سياسية تطالب بالخروج من عباءة المركزية المطلقة.
خامسا، سنحافظ هنا على عدم التوسّع في تحليل ما جرى خلال اللقاء بين الممثل الأمريكي والجنرال مظلوم عبدي، سواء أكان اللقاء يحمل طابع الإملاءات بهدف إعادة تفعيل الحوار مع الجولاني لإنقاذ ما تبقّى من سمعته وسمعة حكومته التي بدأت تتعرّى داخليًا وخارجيًا، أم كان في إطار تنسيق مشترك لمواجهة تصاعد فلول داعش، التي تنشط تحت مسميات عشائر عربية في بادية الشام، وهاجمت الموحدين الدروز تحت شعار “وحدة الوطن”، بينما تخفي في عمقها كراهية مذهبية وتكفيرًا دينيًا. وهو ما تدركه الولايات المتحدة، وتسعى إلى احتوائه والحدّ من تداعياته.
أما فيما يخص التباينات داخل الموقف الأمريكي حيال سوريا، وخصوصًا العلاقة مع حكومة الجولاني والنموذج المستقبلي للدولة السورية، فقد برزت هذه الاختلافات عدة مرات، وبلغت ذروتها في التصريح الذي أدلت به المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، تامي بروسي، بتاريخ 17/7/2025، حين أكّدت أن واشنطن لا تعارض مبدأ الفيدرالية أو الحكم الذاتي كخيارات مستقبلية لبناء سوريا مستقرة.
كان هذا التصريح بمثابة نفي صريح لتصريحات المبعوث الأمريكي توماس براك، الذي سبق أن أعلن رفضه لفكرة الفيدرالية، مدّعيًا أنها لا تتماشى مع “وحدة سوريا”. إلا أن هذه المزاعم بدت سطحية، خاصة أن لا جهة سياسية سورية، ولا مكوّن مجتمعي وازن، قد طالب بتقسيم البلاد، بل العكس تمامًا: الجميع ينادي بوحدة الدولة، ولكن ضمن إطار نظام لا مركزي فيدرالي يضمن العدالة والشراكة الحقيقية.
وهنا بالتحديد تكمن جذور الخلاف، ليس في وحدة سوريا، بل في صيغة إدارتها. فبينما ترى القوى الديمقراطية والحقوقية أن الفيدرالية هي الضامن الوحيد لإنقاذ ما تبقى من الدولة، تصرّ تركيا، ومعها “حكومة الشرع”، على النموذج المركزي، المرتكز على أيديولوجيتين متقاطعتين، القومية المتصلبة، والرؤية الدينية التي تستبطن حلم إعادة نظام الخلافة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
19/7/2025