ريزان شيخموس
تمر سوريا هذا اليوم في لحظة وطنية حرجة ومفصلية تُعد من أخطر ما مرّت به سوريا منذ نشأة الدولة الحديثة. لحظة تتعرض فيها الهوية الوطنية السورية لأشدّ التهديدات، لا من الخارج فحسب، بل من داخل بنية الدولة نفسها، نتيجة تفكك الانتماء الوطني الجامع وتصاعد الهويات الطائفية والعشائرية والمناطقية، والتي تُغذّى بسياسات الانقسام والتجييش والعنف.
ما يجري في محافظة السويداء منذ أسابيع لم يعد مجرد توتر أمني محلي أو اشتباك عابر، بل أصبح جريمة ممنهجة تُرتكب بحق مكوّن سوري أصيل، هم أبناء الطائفة الدرزية، على يد قوى محسوبة على السلطة وتحت غطاء عشائري وطائفي فاضح.
قبل أيام، دخلت القوات السورية إلى السويداء مدججة بالسلاح الثقيل، تحت ذريعة “فض الاشتباك” بين البدو والدروز. إلا أن الوقائع أثبتت أن هذه القوات لم تأتِ لحماية المدنيين أو وقف النزيف، بل مارست الانتهاكات بحق الأهالي، من اقتحام للقرى إلى اعتقالات عشوائية، حرق ونهب وترويع للسكان.
ما زاد من وضوح الأجندة السياسية لهذا الدخول هو الانسحاب المفاجئ للقوات بعد تدخل إسرائيلي مباشر في المشهد، اضطر على أثره الشرع، الرئيس الانتقالي إلى إصدار أوامره بسحب الجيش من السويداء. لم يكن ذلك استجابة لإرادة شعبية أو لحسابات وطنية، بل هروبًا من مواجهة غير محسوبة العواقب بفعل ضغوط خارجية.
لكن الانسحاب لم يكن نهاية التصعيد، بل بداية لمرحلة أخطر. فسرعان ما جرى تفعيل “النفير العام”، وبدأت السلطة بتحشيد ما سُمّي بـ”العشائر السورية” من مختلف المحافظات للتوجه إلى السويداء، تحت شعارات مموّهة كـ”الجهاد” أو “حماية الدولة”، بينما الحقيقة أن ما يحدث هو توظيف جديد لفصائل مسلحة ومجموعات أمنية ترتدي لباس العشائر، لا تمتّ بأي صلة للعشائر السورية الأصيلة وقيمها.
وفي لحظة وطنية مفصلية، لا بد من طرح السؤال المؤلم: أين كانت هذه العشائر حين كان النظام الأسدي يقتل السوريين في كل المدن والبلدات طيلة 14 عامًا؟ لماذا لم يُطلق “النفير العام” عندما كانت حلب تُقصف، والغوطة تُخنق، وحمص تُجوَّع، ودير الزور تُحاصر؟ لماذا يُستدعى هذا الحشد الآن، وفقط الآن، حين تكون المواجهة مع مكوّن واضح من مكونات الشعب السوري، هو أهلنا الدروز في السويداء؟
ما نشهده اليوم ليس تصعيدًا أمنيًا أو سوء إدارة، بل هو مؤشّر على انهيار العقد الوطني السوري بالكامل. فالدولة التي من المفترض أن تكون مظلة جامعة لكل أبنائها، تحوّلت إلى طرف في النزاع، تمارس العنف باسم القانون، وتحرض باسم السيادة، وتقمع باسم الوحدة.
وتزامنًا مع هذا الانهيار الداخلي، نجد أنفسنا أمام صمت عربي وإسلامي مريب، بل ومتواطئ في بعض جوانبه، تحت ذريعة “دعم الدولة السورية”، في حين أن هذه الدولة – بصيغتها الراهنة – لم تعد تمثّل كل السوريين، بل لونًا واحدًا، ونهجًا واحدًا، لا يقبل الاختلاف ولا يعترف بالتعددية ولا يراعي أدنى شروط الشراكة الوطنية.
الثقة بين الدولة والمجتمع تتفكك بوتيرة سريعة، وها نحن نشهد لأول مرة مواطنين سوريين يناشدون خصوم سوريا التقليديين لحمايتهم من سلطتهم. هذا ليس خيانة، بل نتيجة طبيعية لانهيار الحد الأدنى من التعاقد الوطني، ولشعور شريحة واسعة من السوريين أن الدولة لم تعد حامية لهم، بل تهدد وجودهم.
إن استخدام العشائر، أو من يدّعون تمثيلها، لمهاجمة مكوّن وطني أصيل كالدروز، هو وصمة عار سياسية وأخلاقية لا يمكن تبريرها. فالدولة التي تحكم بالتحريض والكراهية، وتستبيح مناطق بأكملها، ليست دولة، بل مشروع تفكك ممنهج. والمجتمع الذي يقبل بذلك أو يصمت عنه، هو مجتمع ينخرط – طوعًا أو كرهًا – في قتل نفسه.
إننا في لحظة لا مجال فيها للمراوغة. سوريا تواجه اليوم خيارين: إما أن تعود إلى دولة المواطنة والعدل والشراكة، أو تواصل الانحدار نحو صراع أهلي طويل الأمد، لا يبقي من الوطن إلا الاسم.
من هنا، نناشد كل القوى الوطنية والمدنية السورية في الداخل والخارج إلى التحرّك الفوري، وعقد لقاء وطني عاجل للخروج برؤية توقف هذا الانهيار، وتعيد الاعتبار إلى مفهوم الدولة باعتبارها بيتًا لكل السوريين، لا سيفًا مسلطًا على رقابهم.
ما يحدث في السويداء ليس شأنًا محليًا، ولا معركة عابرة. إنها معركة وجود، تختبر فيها سوريا نفسها: هل تبقى وطنًا لجميع أبنائها، أم تُختزل إلى مشروع غلبة تحكمه المليشيات والخطابات الطائفية والمصالح الإقليمية؟
سوريا لا تُبنى بالغلبة، ولا تُحكم بالقوة، ولا تُدار بالكراهية. سوريا تُبنى بالمواطنة، والعدالة، والتعدد، والحوار. إما أن ننهض اليوم لحماية ما تبقى، أو نكتب جميعًا الفصل الأخير من تاريخ سوريا الموحدة.