بَارَنْد بِيْرَاني
لطالما اعتُبر الكرد من أكثر الشعوب تعلقًا بقضيتهم وحرصًا في الحفاظ على هويتهم، رغم ما واجهوه من قمع وتهميش وتشتيت على مدى قرون. غير أن الالتفات الحذر إلى الداخل يكشف عن أزمة خفية ومزمنة، لم تعد خافية على أي متابع موضوعي للشأن الكردي، أزمة لا تُختزل في “العدو الخارجي”، بل تنبع أساسًا من طريقة تفكير الكرد ذاتها، ومن نمط تعاطيهم مع قضاياهم ومستقبلهم.
الانغلاق والانشغال بالداخل
من أولى هذه الإشكالات، الانغلاق المتزايد للكرد على ذواتهم، وعدم القدرة على الخروج من الحلقة المفرغة التي تدور في فلك الهمّ الكردي الداخلي. فبدلًا من الانفتاح على التجارب الأخرى وتعلّم دروس التاريخ، نجدهم في كثير من الأحيان يكررون الأخطاء نفسها، ويتناحرون على قضايا هامشية تُهدر فيها الطاقات وتُستنزف الإمكانيات.
إن انشغالهم الدائم بالخلافات الداخلية – سواء بين الأحزاب أو المكونات الاجتماعية – يجعلهم غير قادرين على توحيد الصف أمام تحديات أكبر وأخطر. وهذا الانشغال لا يولّد سوى مزيد من العجز عن اتخاذ قرارات استراتيجية ناضجة.
جمود المعايير وإطلاق الأحكام
المأزق الآخر يكمن في استمرار العمل بمعايير تقليدية لم تعد تواكب روح العصر. لا تزال بعض القيادات تُقيَّم بمدى ولائها الشخصي أو خطاباتها العاطفية، لا بكفاءتها أو رؤيتها. وتُطلق الأحكام أحيانًا بصورة مطلقة: إما تأليه كامل أو تخوين شامل، بلا تدرّج أو تحليل.
هذا النوع من التفكير الثنائي، الذي لا يرى في الآخر سوى عدو أو قديس، يحرم المجتمع الكردي من النقاش الصحي والنقد البنّاء، ويؤدي إلى شلل فكري وسياسي خطير.
السذاجة في التلقي… والاستغلال الخارجي
ثمة ميل واضح لدى قطاعات من الكرد للثقة بأي خطاب منمّق يتحدث عن قضيتهم، سواء أتى من جهة داخلية أو خارجية. هذه الثقة المفرطة تجعلهم عرضة دائمة للاستغلال، وتدفعهم أحيانًا إلى التحالف مع أطراف لا تنوي سوى استخدامها كورقة ضغط ثم التخلّي عنها لاحقًا.
وما يزيد الطين بلّة، هو الخطاب “الناعم” الذي يمارسه بعض الكُتّاب والمثقفين الكرد، ممن يفضّلون تقديم صورة وردية مطمئنة، بدل قول الحقيقة المرّة. فتُكتَب المقالات لتسكين الألم لا لعلاجه، ولتعزيز الوهم لا لكشف الواقع.
العناد والتقديس والجمود
في مقابل هذه السذاجة، ثمة عناد آخر يتجلى في التمسك المطلق بما يؤمن به الفرد أو الجماعة، حتى وإن كان ضارًا. وغالبًا ما يُغلف هذا العناد بغلاف التقديس: فكرة تتحول إلى عقيدة، ورأي يُعامل كإيمان مقدّس، فلا يُسمح بمراجعته ولا التشكيك فيه.
هذه الذهنية المغلقة تقتل روح الاجتهاد والتطور، وتمنع المجتمع من رؤية الحقائق المتغيرة. فالتشبث الأعمى بالمواقف، ورفض الاعتراف بالأخطاء، لا يصنع نصرًا، بل يكرّس الهزيمة.
نحو مراجعة جذرية
إن أخطر ما يمكن أن يصيب أي شعب هو أن يطمئن إلى أوهامه، وأن يخلط بين الإيمان بالقضية وبين تعميق المأزق. والكرد اليوم، إن أرادوا أن ينهضوا فعلًا، فعليهم أن يبدأوا بمراجعة أنفسهم قبل خصومهم، وأن يتحرروا من تقديس الأشخاص والخطابات، وينتقلوا من الانفعال إلى الفعل، ومن التبرير إلى البناء.
فالقضية الكردية لا تموت بضغط خارجي، بل تموت حين تُدار بعقلية لا تتعلم من الخطأ، ولا تفتح نوافذها على العالم، ولا تجرؤ على الاعتراف بأن العطب قد يكون في الداخل، قبل أن يكون في الخارج.
——————————————
*متابع من غربي كردستان