وهم الاستقرار في ظل نظام الشرع

عدنان بدرالدين

القرار التنفيذي الذي وقّعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 30 حزيران 2025، والقاضي برفع معظم العقوبات المفروضة على سوريا منذ عقود، يمثّل انعطافة كبيرة في السياسة الأمريكية تجاه هذا البلد. غير أن هذا القرار لا يشمل العقوبات المفروضة بموجب “قانون قيصر”، الذي لا يمكن إلغاؤه إلا بموافقة الكونغرس، كما أنه لا يزيل تصنيف “هيئة تحرير الشام” – أوالرئيس الانتقالي أحمد الشرع – من قوائم الإرهاب الأميركية، ما يعني أن الخطوة الأمريكية محسوبة بدقة، وتقتصر على إلغاء أوامر تنفيذية سابقة يمكن تعديلها بقرار رئاسي فحسب.

مع ذلك، أثار القرار موجة واسعة من الجدل داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، نظرًا لما يتضمّنه من تسهيلات مالية وإعفاءات اقتصادية لكيانات حكومية سورية مرتبطة بالسلطة الجديدة، وعلى رأسها البنك المركزي السوري. هذه الإشارات توحي بميل واشنطن إلى إعادة دمج النظام الجديد في الاقتصاد العالمي، مقابل إشارات إيجابية – وإن ضمنية – من جانب أحمد الشرع بإمكانية فتح قنوات خلفية مع إسرائيل، وفق ما نقلته تقارير إعلامية قريبة من دوائر صنع القرار في تل أبيب وواشنطن.

غير أن الرهان الأمريكي على تعويم هذا النظام يبدو محفوفًا بعقبات عميقة، بل يتأسس على افتراضات تكاد تكون خيالية من حيث تناقضها الداخلي. إذ لا يمكن تصوّر نجاح خطة ترامب دون حدوث عدد من التحوّلات غير الواقعية في آنٍ واحد، أبرزها: قبول نظام الشرع، الذي يستند إلى قاعدة شعبية إسلامية محافظة، بفكرة التخلي عن السيادة السورية على الجولان، أو حتى السكوت على وجود إسرائيلي دائم فيه، من دون أن يؤدي ذلك إلى انهيار “شرعيته” داخليًا. يُضاف إلى ذلك أن الخطة تفترض، ضمنيًا، تراجعًا إيرانيًا وروسيًا كاملًا عن نفوذهما في سوريا بعد الضربات الأمريكية والإسرائيلية الأخيرة، وقبولًا صامتًا – خصوصًا من طهران – بهذا التهميش الواضح، وهو أمر غير مرجّح بالنظر إلى الطابع الثأري والعقائدي للاستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط.

وفي الاتجاه نفسه، لا يمكن تجاهل التناقض البنيوي بين المصالح التركية والإسرائيلية في سوريا. فأنقرة تسعى لتكريس نفوذ طويل الأمد في شمال البلاد وشرقها، وترفض أي ترتيبات أمنية تقلّص نفوذها لصالح إسرائيل أو غيرها. في المقابل، تتحفّظ تل أبيب بشدة على أي دور تركي محوري في سوريا المستقبل، وتخشى من تغوّل الإسلام السياسي داخل السلطة الجديدة، حتى وإن كان هذا التوجه مؤقتًا أو مقنّعًا بخطاب براغماتي.

ولا تقل أهمية عن ذلك حقيقة أن هذه الخطة تتجاهل السباق الخفي، لكن المحموم بين السعودية من جهة، وتركيا وقطر من جهة أخرى، على تمثيل العالم السنّي. ومن الصعب تخيّل أن تسمح الرياض، التي تسعى إلى تقديم نفسها كزعيم لـ”الاعتدال العربي”، بأن تتحول دمشق إلى ساحة نفوذ تركي- قطري- إخواني، حتى وإن تم ذلك برعاية أمريكية مباشرة. هذا الموقف السعودي يحظى بدعم قوي من جانب دولة الإمارات.

ورغم أن ترامب يبدو مقتنعًا بأن مسار “السلام الاقتصادي” مع دمشق يمكن أن يُنتج نوعًا من الاستقرار القابل للتسويق انتخابيًا، فإن الواقع الشعبي في سوريا والمنطقة العربية أوسع وأعقد من حسابات النخب. فالتطبيع مع إسرائيل، حتى حين يتم توقيعه رسميًا من قبل الحكومات، لا يتحول تلقائيًا إلى قبول شعبي. وهذا ما أظهرته التجارب السابقة مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية: اتفاقات لا تزال تعيش في عزلة عن شرائح شعبية واسعة. فكيف يمكن إقناع المجتمع السوري، الذي ما زال يعيش جراحًا مفتوحة وحالة إنهاك متراكمة، بالتطبيع مع إسرائيل، في وقت تُرك فيه ملف الجولان جانبًا، وهو الذي ظل لعقود جمرة يتم النفخ فيها لكي تظل حيّة في المخيال الشعبي؟

يُضاف إلى ذلك أن المعركة ضد إسرائيل في الذاكرة العربية ليست مجرد صراع سياسي، بل هي معركة ذات جذور ثقافية ودينية ضاربة في عمق التاريخ الإسلامي. فمعاداة اليهود في المجتمعات العربية لا تنبع فقط من سياسات إسرائيل، بل تتغذى من نصوص دينية تأسيسية ترسّخت في الموروث المجتمعي، ما يجعل تجاوز هذه المعركة عبر الاتفاقات السياسية أمرًا شديد التعقيد.

داخليًا، لا يزال النظام الجديد الذي تعوّل عليه واشنطن يُقصي شرائح واسعة من السوريين، متجاهلًا حقوق مكونات تشكّل أكثر من 40٪ من سكان البلاد، كالكرد، والتركمان، والعلويين، والدروز، والمسيحيين، والإسماعيليين. ورغم هذا التنوّع، لا تجد هذه الجماعات موطئ قدم في بنية السلطة الجديدة، التي تقوم على خطاب إسلامي سُنّي ضيق الأفق. الأسوأ من ذلك أن جهات محسوبة على هذه السلطة – بشكل مباشر أو غير مباشر- تورّطت في انتهاكات موثّقة بحق مدنيين علويين ودروز، في مناطق الساحل وحمص وريف دمشق، وصولًا إلى استهداف كنيسة للروم الأرثوذكس، كبرى الطوائف المسيحية في سوريا، في حي الدويلعة الدمشقي. ورغم جسامة هذه الجرائم، لم تتجاوز ردود الفعل الرسمية حدود الإدانة اللفظية.

والنساء كذلك، كما هو معتاد في أنظمة ذات صبغة دينية سلطوية، يواجهن تهميشًا مضاعفًا. إذ لم تتضمن أي من التصريحات أو التفاهمات السياسية الراهنة إشارات إلى المساواة الجندرية أو تمثيل المرأة أو حمايتها من العنف والانتهاك، بل يبدو أن النظام الجديد يُعاد تشكيله على صورة القوى التي حملته إلى السلطة: محافظة، هرمية، وعنيفة في ممارساتها السلطوية الأبوية، المرمَّزة بحمولة دينية ثقيلة.

في هذا السياق، يبدو أن قرار ترامب لا يعبّر عن خطة مدروسة لإعادة صياغة مستقبل سوريا، بل عن مناورة براغماتية ضيّقة الأفق، قد تخدم حملته الانتخابية، لكنها لا تُنتج سلامًا حقيقيًا ولا استقرارًا طويل الأمد. إنه سلام يتحايل على الذاكرة، وتطبيع بلا أرضية شعبية، وتفاهمات فوقية تتجاهل الأمزجة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي لطالما فجّرت المنطقة من داخلها.

باختصار، يمكن القول إن خطة ترامب قد تبدأ بإعلانات متفائلة، لكنها لا تملك أفقًا حقيقيًا في ظل هذا التناقض الصارخ بين الواقع والمأمول – كما هو الحال، بالمناسبة، مع معظم خططه -، وبين الرغبات الأمريكية المعلنة، والبُنى الهشّة والمفترضة التي يُراد تسويقها كواقع سياسي دائم في سوريا.

2 تموز 2025

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…