عبد الجابر حبيب
في الفجرِ، حين تغطّ المدنُ في صمتها الكثيف، كانت زنزانةٌ في سجنِ أورمية تنزفُ حياةَ ثلاثةِ شبّانٍ أكراد.
لم تُفتح نافذةٌ واحدة، ولم يُسمح لأمٍّ أن تُقبّلَ جبينَ ابنها للمرّة الأخيرة، ولم يُمهلوا لحظةً لقولِ وداعٍ يليقُ بالشهداءِ.
إدريس علي، آزاد شجاعي، رسول أحمد رسول — ثلاثةُ أسماءٍ كُرديةٍ خُطّت على ورقةِ الإعدامِ بتوقيعِ الخوفِ، لا العدالةِ.
قالوا إنهم جواسيسُ لإسرائيل، وكأنّ طهرانَ لم تجدْ حيلةً تُقنعُ بها العالمَ إلا التخابر.
لكنّ من يُسجنُ منذ تموز 2023، أيُجالسُ الموسادَ في ليلِ الزنزانات؟
أيُراسلُ تل أبيبَ من تحت العذابِ، بينما قيودُ التحقيقِ تمزّقُ معصميه؟
لقد أصبح التجسّسُ هو التُهمةُ الجاهزةُ، واللافتةُ المعلّقةُ على أعناقِ كلِّ من يحلمُ بحريةٍ للكُرد.
فطهرانُ لا تُعدمهم لأنهم جواسيسُ، بل لأنهم كُرد.
لأنهم يحملونَ في عيونِهم خرائطَ وطنٍ مُمزّقٍ،
وفي صدورِهم أمنيةَ العدالةِ،
وفي قلوبِهم لهجةً لم تُروَّضْ بعدُ.
الحجّةُ جاهزةٌ، والموتُ ينتظرُ:
ليس الأمرُ جديداً. فمنذ سنواتٍ طويلة، تلبسُ إيرانُ عباءةَ الأمنِ القوميِّ لتخنقَ بها كلَّ صوتٍ كُرديٍّ.
وكلّما اشتدّ عصفُ الصراعِ بينها وبينَ إسرائيل، دفعتْ بالشبابِ الكُردِ إلى حبلِ المشنقةِ،
كأنّهم هم من صاغَ اتفاقياتِ التطبيعِ أو فجّروا المفاعلَ النوويّ.
لكن خلال خمسةِ أيامٍ فقط، سُجّلت الجريمةُ بدمٍ فاضحٍ:
إيران أعدمت أكثرَ من 21 شابّاً كرديّاً دفعةً واحدةً.
أجسادٌ تتعاقبُ على المقصلةِ كما تُعدّ قطعُ الغيارِ في مستودعٍ للترهيبِ.
وكان من بينِ هؤلاء شابٌّ أُعدم يومَ 25 تموز 2024 في قضيّةٍ تعودُ إلى عام 2008،
بمحاكمةٍ وصفتْها منظماتٌ حقوقيةٌ بـ”الجائرةِ”، واعترافاتٍ انتُزعتْ تحت التعذيبِ.
فهل الموسادُ بهذه الغفلةِ ليسجّلَ كلَّ هؤلاء العملاءِ دفعةً واحدةً؟
هل تعترفُ السلطةُ أنّ السجونَ الإيرانيةَ أصبحتْ مقرّاتٍ سرّيةً للاستخباراتِ الأجنبيةِ؟
أم أنّ الحقيقةَ هي ما يدركُه كلُّ عاقلٍ: أن إيران تُعدمُ الكُردَ فقط لأنهم كُرد.
الفسادُ في الأرض… أيُّ أرض؟
تُحبّ طهران أن تتحدّثَ بلغةِ القرآنِ حين تُنفّذُ قراراتِها السياسيّةَ.
“الفسادُ في الأرض”، تُهمةٌ نزلتْ على رؤوسِ الشهداءِ كالصاعقةِ.
ولكن أيُّ أرضٍ هذه التي يُفسدُها من يطالبُ بالحياةِ؟
أليست الأرضُ نفسُها التي حُرِمَ فيها الكُردُ من لغتِهم،
ومن مدارسِهم،
ومن صحفِهم،
ومن ترابِ وطنِهم؟
أيُّ فسادٍ أكبرُ من أن تُحكَمَ بالموتِ لأنّ اسمكَ ليس فارسيّاً؟
لأنّ حلمكَ لم يمرَّ عبرَ “مرشدِ الثورةِ”، بل عبرَ وجعِ أمٍّ تبحثُ عن قبرٍ تعترفُ به الدولةُ؟
أصواتٌ من العالم… وصمتُ القبور:
منظماتُ حقوقِ الإنسانِ تصرخُ، لكنها تصرخُ في فراغٍ سياسيٍّ عميقٍ.
العفوُ الدوليةُ، “هنغاو”، “شبكةُ كردستان”، و”هيومن رايتس ووتش” كلّها وثّقتْ التعذيبَ،
وغيابَ المحامينَ،
وغيابَ المحاكماتِ العادلةِ،
واستخدامَ الاعترافاتِ بالإكراهِ.
لكنّ المقصلةَ لا تقرأُ الوثائقَ،
ولا تنتظرُ المرافعاتِ،
ولا تُمهلُ أحداً لتقديمِ الطعونِ.
الموتُ في إيران قرارٌ يُوقَّعُ في مكاتبِ الاستخباراتِ،
ثمّ يُنفَّذُ في الفجرِ،
ويُنسى في المساءِ.
العدوُّ الحقيقيُّ في المرآة:
إذا كانت إيرانُ تُريد أن تعرفَ من يخرّبُ البلادَ،
فلتنظرْ في مرآةِ التاريخِ.
فالمشانقُ لا تحمي الأوطانَ،
والدمُ لا يُخمدُ نيرانَ الصراعِ،
والقمعُ لا يصنعُ ولاءً.
في كلّ مرةٍ تُعدمُ فيها شابّاً كُرديّاً،
يولدُ على الطرفِ الآخرِ من الجبلِ طفلٌ جديدٌ،
يكتبُ اسمَه على الحجرِ،
وينتظرُ.
الحياةُ لا تُعدمُ:
لا تُعدمُ إيرانُ الشُبّانَ فقط، بل تحاولُ أن تُعدمَ الفكرةَ،
أن تُعدمَ الحلمَ،
أن تُعدمَ الصوتَ،
أن تُعدمَ الأمَّ،
أن تُعدمَ الذاكرةَ،
أن تُعدمَ الأغنيةَ.
ولكنّها تخسرُ في كلّ مرةٍ، لأنّ الحياةَ لا تُعدمُ.
ما زالت أمّ إدريس تحفظُ ضحكتَه،
وما زالت يدُ آزاد مطبوعةً على جدارِ زنزانتِه،
وما زالت صرخةُ رسول تسيرُ في شرايينِ من سيأتي بعدَه.
هؤلاء الذين أُعدموا ليسوا جواسيسَ،
بل شهداءُ من إقليمِ كردستان لا يعترفُ به الجلّادُ.
وما زالت الجبالُ تحفظُ أسماءَهم…
وتنادي.