إبراهيم اليوسف
بدهيٌّ أن التاريخ حين يتعثّر لا يعود القهقرى، بل يغيّر ملامحه ويستعير أقنعة تُلبّس الضحية وجه الجلاد، ويُعاد تدوير السلاسل في سوق الحرية. لم تكن ثورة السوريين عبثاً، بل كانت خفقة قلب شعب أراد أن يقول: كفى. كفى للطغيان، للوراثة التي حوّلت الجمهورية إلى مزرعة. كفى لدستور يُكتب على مقاس التوريث، كفى للبوابة الأمنية التي تحكم مصير الإنسان. غير أن من تسلّلوا عبر الشقوق، لا ليرمموا الحلم، بل ليعيدوا” تدشيم” الزنزانة بلونٍ مختلف، انقضّوا على الفكرة، وألبسوها لحى لا تشبه النقاء، بل تفضح الانتهاك باسم الإله.
وذلك رغم تقديري العميق والصادق لأصحاب اللحى الصادقين الذين لا يطلبون في جوهرهم ونقائهم سلطانًا إلا من الله، ولا يسعون إلا لكرامة الإنسان، ولا يتّخذون الدين سلعة، بل عهدًا وشهادة، بعيدًا عن أن تصبح اللحية شعارًا جاهزًا كما صارت قبعة “تشي غيفارا” أيقونة في سوق الغضب، أو قبعة “هو تشي مينه” راية في حروب التحرير، أو بايب “ونستون تشرشل” في خطب النصر، أو بايب “جان بول سارتر” في مقاهي الوجودية، أو شارب “هتلر” الذي اختصر العالم في عِرق ودم محددين، أو شارب “ستالين” الذي حاصر الفكر من جهة، والنَفَس من جهة أخرى، أو حتى صولجان “لويس الرابع عشر” حين أعلن أنه الدولة، فغدا ظلّها الكاسر.
من هنا نرى كيف أن أولئك الذين طالما مجّدوا البعث، ودافعوا عن علم النظام كأنه آية محكمة، تخلّوا عن أسنانهم البعثية بعد أن جرّبوا مضغ الثورة ولم تهضمهم، فعادوا- في مظهرهم الجديد- دعاة إلى الفضيلة، من فوق الكراسي التي لما يجف بعد عرق الطغاة عنها. ثمة من تنقّل بين الأيديولوجيات كما يُبدّل التاجر سلعة راكدة، من الإلحاد الفج إلى التدين المعلّب، لا بحثاً عن خلاص روحي، بل سعياً لموطئ قدم في بورصة الدماء، وهكذا تمّت إعادة طلاء الوحش ليبدو وليًّا.
لم يكن أولئك وحدهم، بل انضمّت إليهم نخبة ثقافية وحقوقية إلى جانب السياسية- المساومة- كي تتعرى أمام ذاتها والمحيط. نخب هجرت دورها، وتخلّت عن أدواتها، وبدّلت خطابها لتلائم المرحلة، بل لتسوّغ ما لا يُسوّغ، حتى صار بعض الحقوقيين يسوغون الخطف باسم الضرورة الثورية، وبعض الكتّاب يتفنّنون في تحريف النصّ ليصير مديحًا للجلاد الجديد، أما المصابون بلوثة السياسة فحدث عنهم ولا حرج، ناهيك عن الرماديين و”الإمعات”. من دون أن ننسى تسمية الأشياء كماهي باعتبار أن بعض: النخب الثقافية والحقوقية والسياسية المتهافتة المتساقطة شاركت في الجريمة، لا بالتنفيذ، بل بالتسويغ المتقلب المقيت.
وجميعنا يرى أنه في سوريا التي حلمت بالديمقراطية، من خلال تعدديّة تحفظ لجميع السوريين حقوقهم، دون إعادة تصنيف ملفق ضمن معياري: الأقليات والأكثريات، عبر مرتكزات وهم الاستحقاق القوموي الطائفي، إذ صار الحديث عن اللباس-لا الفكر- هو معيار الوطنية. سوريا التي خرج أهلها هاتفين “واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد”، أصبحت تُدار اليوم بفتاوى تُطلق على الهواء لاجتثاث المختلف، لا بتقارير أزلام النظام، بل بنشرات منابر المبايعة، حيث: الحياد جريمة، والمعارضة كفر، والمثقف خائن ما لم يكن ببغاءً يردّد سردية المنتصر. فأي انقلاب هذا الذي يتم، بخاصة عندما يتم استهداف أصحاب الموقف والرأي.
تأسيساً على ذلك، تغدو الثورة نفسها متّهمة، متّهمة لأنها خلّفت مناخاً استثمر فيه الطفيليون ليعيدوا إنتاج الاستبداد بأدوات مغايرة. بدل أن يتفتّح المجتمع نحو فضاءات أرحب، عادت الأسوار أكثر صلابة، لا يعلو فيها سوى صوت العشيرة، أو الزعيم الملتحي الذي لا يرى الله إلا في صورته. حيث إنه من فتاوى الأمن إلى فتاوى العمائم تتم: إعادة تدوير الطغيان. إذ كيف غاب السؤال عن أولئك الذين استثمروا المنابر والمراكز الثقافية بالأمس، ناشرين أصداء أصواتهم، ثم عادوا ليؤسّسوا “هيئات شرعية” تعتقل الشعر وتجلد الرسم وتقطع الطريق عن أي مشروع نقديّ؟
ولم يكن التحول الديني السريع لدى بعضهم سوى مرآة لتبدّل الأقنعة لا الإيمان. أجل، هناك من أمضى عمره جالسًا في مقاهي التنظير الإلحادي، ينكر كل مقدّس، ويهزأ من كل طقس، لكنه فجأة، بين ليلة وضحاها، تحوّل إلى واعظ يتلو آيات الغفران على جثث خصومه. هذا ليس إيمانًا، بل يأتي في إهاب صفقة، وهو الانقلاب في الموقف ولا يعني صحوة، بل نفاقًا مسنودًا بسلطة وسيف. إنهم أولئك الذين لا يؤمنون بشيء إلا بأنفسهم، ولا يخشون نارًا سوى نار الخسارة.
أجل، ثمة لحظة كارثية حين يتحوّل حلم الحرية إلى وسيلة للقمع، حين يُستنسخ السجن على يد الذين مزّقوا جدرانه، ثم أعادوا بناءه بزخرفة أيديهم. في مدن كثيرة لم تعد الثورة سوى شعار، والثائر سوى كرسي، والمعارضة سوى سلطة أخرى تستمد شرعيتها من فشل من قبلها، لا من قدرتها على صناعة البديل. الثورة التي أجهضها ورثتها: من الشعارات إلى اليافطات السوداء.
وهكذا بات الكرد، على سبيل المثال، من أوائل من حلموا بتحقيق صيغة تشاركية تحفظ التنوع، متّهمين الآن بأنهم “يهددون وحدة التراب”. لم يسأل أحد كيف يمكن لوحدوية حقيقية أن تُبنى فوق الدم، ولا كيف يمكن لحوار أن يُجرى والسلاح موجه إلى الرأس. أين رسل ورادة التلاحم والتآخي ممن أرسوا دعامات مشروع سوريا، هل كانوا ليستسيغوا أن تُدار البلاد من قبل تجار الخنادق، لا بناة المدن؟
صحيح أن النظام كان له فلول في كل الطوائف، وإن رسن القيادة الفعلية ظلّ، في معظم سنوات الثورة، مشدودًا لطائفة محددة- كما قبلها- لكن عبر المشاركة، وتوزيع الأدوار بين الطوائف، غير أن هذا لا يعفي من تشارك الفساد السياسي، والاصطفاف الأمني، وتوزيع التصفيق. أجل، التصفيق للدساتير، التصفيق للتنصيب، التصفيق ليوم النصر. إن من اعتادوا التصفيق بالأمس – تحت صورة الأسد- هم أنفسهم من صفّقوا لمن حلّ محله حين تغيّرت القبعة ولم تتبدّل اليد.
وهؤلاء الذين غيّروا مواقعهم باتجاه “دار النصر” لا يمكن تطهيرهم بمجرد إعلان ولاء جديد. من ارتكب فظائع تحت راية الثورة لا تقل وحشية عن فظائع النظام، ينبغي أن يسري عليه قانون العدالة الانتقالية كما على الفلول. العدالة المغيّبة: فلول بنكهة الثورة ومجرمون بزيّ النصر. لا أحد فوق الحساب، ولا أحد يُعفى فقط لأنه لبس طاقية غير التي اعتادها. لا يجوز أن تصبح السلطة مغفرةً تلقائية لمن التحق بمعسكر الأقوى، وأن يصير من دخل “الدار” آمنًا بلا مساءلة. كيف يُكلَّف من سرق الناس بإدارة العدالة؟ كيف يُسند إلى مرتزقة وقطاع طرق مهمة بناء مجتمع جديد؟ تتم حالياً في محافظات منها حمص عمليات خطف منظمة، غير معلن عنها، على طريقة ما كان يتم في زمني الثورة والشبيحة من الطرفين. أما واقع تفاقم – الجوع- فقد كان على السلطة التفكير بمعالجة الوضع المعيشي إسعافياً لمواطن بات لا يملك ثمن رغيفه، منذ لحظته الأولى، لا البحث عن سبل تكريس ديمومة اغتصاب السلطة.
أما الدعم العربي للنظام اليوم، فلا يُقرأ إلا في سياق فوبيا إيران وحزب الله. فبعض الأنظمة لا يهمّها كيف تُدار سوريا، ولا مصلحة شعبها، ولا تاريخها وحاضرها ومستقبلها، بل فقط ألا تكون قاعدتها طهرانية. لهذا فإنها تُرحّب وتدعم أية دمية، طالما تبصم لها على الورقة البيضاء، من دون أن تبالي بقائمة تنازلاتها حتى ولو كانت”شعارات كبرى” مضللة، تشبث بها النظام، ومن جاؤا بعده. ومثلما لا يعني هذا الدعم تطويب النظام، لا يعني الدعم الأممي – بذرائعه الخاصة- أن ما يُفرض على السوريين يمثل الصواب. إذ إن العالم لا يكترث لمن يُحكم، بل كيف يُدار التوازن، ومَن يضمن مصالحه في الموانئ والحدود والأسواق، في زمن تفرض على الشعوب صفات قادتها بموجب التطويب الأمريكي، حتى وإن كان بنكهة مزاج ترامبي مفترس وجشع!
ضمن هذا التيه. هذه الفوضى. المعمعة. التهافت. الانحدار القيمي، فإنه حتى الأطفال لم ينجوا من التحوّل الذي أصاب هذا الوطن. إذ صار يُسأل الفتى عن ماركة بنطاله، وطول لحية أبيه، وهوية أمه، بدلاً من أن يُسأل عن حلمه. وها هو “طفل إبسن” السوري يُنتظر، لا ليصرخ باسم الكرامة، بل ليُقمع صراخه قبل أن يُولد. فالولادة نفسها باتت محكومة بشروط “المُحرِّم”، وحقّ الطفل في أن يحلم تحوّل إلى تهمة. المسرحية التي كتبها النرويجي “هنريك إبسن” منذ أكثر من قرن، وقفت على تلك اللحظة التي يصرخ فيها طفلٌ وحيدٌ في وجه الموكب الإمبراطوري: “إن ملككم عار”. لا أحد يجرؤ على قولها: الملك عارٌ… والدولة كذلك.
من هنا، يبدو أن التاريخ السوري لم يتقدّم خطوة إلى الأمام، بل أُرغم على ارتداء قناع أسود قميء من الماضي، والعودة بأقدام مصفّدة إلى حيث بدأ الجرح. لكن مهلاً، فلو كان التاريخ يدور إلى الوراء لما سقطت أنظمة، ولا انهارت طغيان، ولا نهضت شعوب من رمادها. نعم، قد يُغدر بالحلم، وقد يُشوَّه الاسم، لكن النهر لا يمشي عكس انحداره. لا بد من لحظة، ولو بعد زمن، يخرج فيها طفل إبسن السوري من بين الأنقاض، ليسأل بجرأة الإنسان وحده: لماذا جميعكم عراة، ولا أحد يجرؤ أن يقولها؟ وعندها فقط، تبدأ الثورة.