بوتان زيباري
في رُكام الشرق المتصدّع، حيث تتصارع القوى كما تتناطح الغيوم في سماءٍ بلا رحمة، ينبثق صراعٌ ليس كمثله صراع، إذ تنصهر فيه العقيدة بالنفوذ، وتتمازج فيه الذاكرة بالمصالح، في مشهدٍ يشبه رقصة تماثيلٍ طينية فوق صفيحٍ يغلي. إنها ليست مجرد مواجهة بين إسرائيل وإيران، بل اختبارٌ جديد لعقيدة الجغرافيا حين تُساق إلى المذبح باسم العقيدة، وحين تتحوّل الذاكرة إلى خنجرٍ مسموم يُغرس في قلب الإنسان المقهور، لا لينقذه من الظلم، بل ليُثبت للجلاد سلطته عليه.
الصهيونية التي رفعت راية الدين لتبني به قوميةً جديدة، تواجه اليوم ثيوقراطية شيعية ارتدت قميص الحسين لتبرر به زحفها الجيوسياسي نحو جراح الأمة السنية. كلا الطرفين اجترح لنفسه سردية خلاص، وابتدع لنفسه غاية أسمى، بينما في جوهر الأمر كلاهما عبدٌ مأمور لأهواء السلطة ووساوس الامتداد. إسرائيل تقول إنها ملاذٌ لشعبٍ مطارد، وإيران تزعم أنها درعٌ لمذهبٍ مقهور. لكن الحقيقة التي يهمس بها التاريخ في أذن من يصغي: أن الاستبداد لا مذهب له، والطغيان لا يحتاج إلى هوية ليحكم، بل يكفيه جيش وسردية وبوق.
ولاية الفقيه ليست مجرد نظرية في الفقه السياسي الشيعي، بل هي تجسيدٌ لتلك الغرابة التاريخية التي تتحول فيها المأساة إلى مشروع دولة، والانتظار الميتافيزيقي للإمام الغائب إلى أجندة نووية، والتشيّع إلى سلاح استراتيجي. وهكذا، نقف أمام كيانين يتنازعان الشرق وكأنهما ورثة شرعيون لأرضٍ لم تُكتب لهم، وأمامهما شعوبٌ مقهورة تحترق بنار لا تعرف مصدرها، وتُجلد بسياط لا تُفرّق بين سني وشيعي ولا بين عربي وكوردي، فالمحرقة واحدة، والمحرّقون يتبادلون الأدوار.
حين يقول العارفون “اللهم اضرب الظالمين بالظالمين”، فإنهم لا يلعنون الطرفين فحسب، بل ينبهوننا إلى أن الظلم حين يتصارع لا يُولّد عدلًا، بل مجازر جديدة. وبينما يدّعي الطرفان الطهارة، فإن المظلومين – من غزة حتى الأحواز، ومن كوباني حتى صنعاء – يدفعون ثمن هذه “الطهارة” المفترى عليها. أما الكبار، فمتكئون على عروشهم، يعدّون الضحايا بدمٍ بارد، ويبتسمون للكاميرات، كأنهم يحصون الثمار في موسم الحصاد.
وها هي الولايات المتحدة، كعادتها، تقف عند بوابة الحرب متأملة، لا تُسرع ولا تتأخر، تتنشق رائحة الدم كمن يتفقد نضج الخبز في التنور، وتختار لحظة التدخل كما يختار الساحر لحظة قلب الورقة. وترامب، بروح التاجر، يساوم على الاستسلام “غير المشروط”، بينما خامنئي يعلنها “جنة عبر الشهادة”، وكأن الجنة سوقٌ شعبيٌ يُفتح يوم الثلاثاء، ويدخله من أضرم نيران الحرب في صدر الفقراء.
لكنّ هذه الحرب لا تنحصر في ساحة واحدة، فهي بركانٌ ينفجر في جوف المنطقة كلها. تركيا، مثل أفعى ذات لسانين، تلعن الاحتلال وتصافح المحتل، ترفض التطبيع وتوقّع اتفاقيات عسكرية، تشتم نتنياهو على المنابر وتستورد منه الطائرات بلا خجل. يا لسخرية الأخوة الإسلامية حين تُصبح سلعةً في سوق المساومة، ويا لِفجور الخطاب حين يصبح غطاءً لعهر المصالح. من أنقرة التي اعترفت بإسرائيل باكرًا، إلى اليوم الذي تتقاطع فيه خطوط الغاز والسلاح والمصالح، ما تغيّر شيء سوى القناع.
وفي خضم هذا الطوفان، يعود سؤال الكورد، ذاك الجرح المفتوح الذي لم يُخاط بعد، لا في طهران، ولا في بغداد، ولا في أنقرة. فأي زلزال يصيب إيران، لا بد أن يهز الأرض تحت أقدام تركيا، التي تتوجس من فكرة كيان كوردي في إيران أكثر مما خافت من فيدرالية كوردستان العراق. لأن سقوط العمامة في طهران قد يفتح بوابة الريح نحو مهاباد ثانية، وربما نحو كوردستان أكثر نضجًا وتجذّرًا، في حين لا تملك أنقرة إلا خطابًا قوميًّا هشًّا، يستمد وجوده من نفي الآخر، ومن وهم الدولة الأحادية في أرضٍ تفيض بالتنوع.
لقد علّمنا التاريخ أن الحدود لا تُرسم فقط بالدم، بل تُكتب أيضًا بالخذلان. وكما أن احتلال بغداد عام 2003 فتح الباب لولادة إقليم كوردستان، فإن احتراق الجبهة الإيرانية اليوم قد يكون بابًا آخر لإعادة هندسة الجغرافيا، وفق منطقٍ جديدٍ يفرضه الواقع لا الخيال. غير أن المظلومين، كما في كل مرة، يدفعون الضريبة الباهظة، ولا تُكتب أسماؤهم على الخرائط، بل تُدفن أجسادهم تحتها.
في هذه اللحظة المتشظية، لا نعلم أهي بداية النهاية لنظام الملالي، أم أنها مجرد فجرٍ كاذب لحربٍ ستبتلع ما تبقى من الكرامة الإقليمية؟ القرار لم يعد في يد من يُعانون، بل في يد من يفاوضون على مآسيهم. وبينما يهمس صُنّاع القرار في طهران وتل أبيب وواشنطن بخططهم، تبقى المنطقة كلها في حالة إنذار. وكأنها تنتظر صوت الانفجار الأول لتدخل في دورة جديدة من الدم، لا نعرف متى تبدأ، ولا إن كان لها خاتمة.
السويد
20.06.2025