البرنامج النووي الإيراني: تريليونات الدولارات لفرض وحدة قومية وهمية؟

عبدالباقي اليوسف

 

بدأ المشروع النووي الإيراني في عام 1957، في سياق برنامج “الذرة من أجل السلام” الأمريكي، وكان يهدف بشكل أساسي إلى الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية. في تلك الفترة، حظي البرنامج بدعم واسع من الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية الغربية، حيث انضمت إيران إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عام 1958، ودخل أول مفاعل بحثي حيز الخدمة في طهران عام 1967 بمساعدة أمريكية. حتى الشاه محمد رضا بهلوي أسس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية عام 1974 بخطط طموحة لبناء 23 محطة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية. استمر هذا الدعم حتى قيام الثورة الإيرانية عام 1979 التي أطاحت بالشاه، حيث توقفت المشاريع مؤقتاً، وحتى أن المرشد الأعلى روح الله الخميني أمر بحل أبحاث الأسلحة النووية السرية لاعتبارات فقهية. ومع ذلك، شهد البرنامج توسعاً كبيراً بعد وفاته عام 1989.

لكن ما بدأ كمشروع سلمي تحول تدريجياً إلى مصدر قلق دولي بسبب طموحات إيران العسكرية المحتملة، مما أدى إلى فرض عقوبات اقتصادية قاسية على البلاد. هذه العقوبات فرضت تكلفة باهظة على إيران، لا تقتصر على الإنفاق المباشر على بناء المنشآت وشراء المعدات وتطوير الأبحاث، بل تشمل أيضاً خسائر غير مباشرة هائلة. فبحسب تحليل سياسي في مارس 2021، استناداً إلى تصريحات للرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد في مايو 2018، قد تصل مجمل مصروفات وخسائر إيران بسبب برنامجها النووي إلى 2 تريليون دولار. هذا الرقم يشمل خسائر فادحة جراء الحرمان من بيع النفط (1.5 مليون برميل يومياً) والغاز (20 إلى 30 مليار دولار سنوياً)، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة الاستيراد بنسبة 20 إلى 25% وفقدان القدرة على التصدير. هذه “تكلفة الفرصة الضائعة” تضع عبئاً هائلاً على كاهل الاقتصاد الإيراني وشعبه الذي يئن تحت وطأة ارتفاع تكاليف المعيشة وفقدان الحريات.

ما الذي يدفع النخبة الحاكمة في إيران للإصرار على برنامجها النووي، رغم التكاليف الباهظة والخسائر الاقتصادية التي تثقل كاهل الشعب؟ بالتأكيد، هناك أسباب متعددة، لكن المحور الأساسي يكمن في رغبة هذه النخبة الأيديولوجية في البقاء بالسلطة وصهر جميع مكونات الشعب الإيراني في بوتقة القومية الفارسية. هذه القومية، في الواقع، قد تزيد قليلا من 50% من تعداد سكان هذا البلد ذي الحضارة العريقة التي تمتد لأكثر من ألفي عام. تاريخياً، كانت هذه الإمبراطورية في شكلها المعاصر أشبه بدولة اتحادية متعددة الثقافات واللغات.

في عصر التكنولوجيا الحديثة، والفضائيات، ووسائل التواصل الاجتماعي المتقدمة، أصبح من العبث إصرار النظام الحاكم على رفض الهويات والثقافات المتعددة للشعوب الإيرانية العريقة. لا شك أن فرض ما يسمى بـ “وحدة المجتمع” لا يمكن تحقيقه باستخدام القوة، أو بترهيب القوى الدولية بالسلاح النووي. يؤكد التاريخ أن أسس الوحدة المجتمعية، خاصة بين مكونات بلد واحد يتسم بتعدد الثقافات واللغات، تكمن في المقام الأول في تحقيق المساواة بين مختلف الشعوب والمكونات الدينية والثقافية. تتطلب هذه الوحدة تحقيق شكل من أشكال الدولة يتسع لكل هذه المكونات، وتضمن لهم رؤية حرياتهم وتطورهم وسعادتهم وأمنهم ومستقبلهم المشرق من خلالها. هذه القوة المكتسبة من وحدة المجتمع هي أقوى بكثير من كل أشكال “الوحدة” التي تُفرض بقوة الحديد، أو من الخوف الذي تفرضه الأنظمة المستبدة. إن السعي لتوحيد أمة بالقوة النووية بدلاً من العدالة الاجتماعية والاعتراف بالتنوع هو مسعى محكوم عليه بالفشل على المدى الطويل.

اليوم، يقف النظام الإيراني أمام مفترق طرق صعب ومُـرّ. كما تجرع الخميني “كأس السم” عندما قبل بوقف الحرب مع العراق عام 1988، فإن النخبة الحاكمة اليوم أمام خيارين: إما القبول بالشروط الأمريكية والإسرائيلية، التي تتضمن تصفير تخصيب اليورانيوم، وتفكيك البرنامج النووي، والتعهد بالتخلي عنه، متجاهلين كل التكاليف الباهظة التي تكبدتها الدولة والشعب؛ أو الاستمرار في خوض هذه الحرب التي فرضتها إيران على نفسها. هذا الاستمرار لن يقتصر على المواجهة مع إسرائيل فحسب، بل من المحتمل أن يجر الولايات المتحدة إليها، مما قد يؤدي إلى دمار لا يقتصر على البرنامج النووي وحده، بل قد يطال إيران بحد ذاتها. إن مستقبل إيران يعتمد بشكل كبير على هذا القرار المصيري.

15 / 6/ 2025

 

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد حسو إن مسيرة الشعب الكوردي هي مسيرة نضال طويلة ومستمرة، لم تتوقف يومًا رغم الظروف الصعبة والتحديات المتراكمة، لأنها تنبع من إرادة راسخة ووعي عميق بحقوق مشروعة طال السعي إليها. ولا يمكن لهذه المسيرة أن تبلغ غايتها إلا بتحقيق الحرية الكاملة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التمييز القومي أو الديني…

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…