عدنان بدرالدين
الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق الذي استهدف عمق الأراضي الإيرانية فجر اليوم، بما في ذلك منشآت نووية ومقار قيادية تابعة للحرس الثوري الإيراني ، يمثل حدثا مفصليا في تاريخ الصراع الشرق أوسطي، ويؤشر على انتقال المواجهة بين طهران وتل أبيب من مرحلة التهديدات المتبادلة والحروب بالوكالة إلى طور جديد أكثر مباشرة وعلنية. وإذا كانت إسرائيل قد وصفت الضربة بأنها أولية ويمكن أن تتبعها عمليات أخرى خلال الأيام المقبلة، فإن إيران بدورها تعهدت بردّ قاسٍ وواسع، وبدا أن الرد قد بدأ فعلاً من خلال إطلاق سرب كبير من الطائرات المسيّرة، تقول مصادر عسكرية إسرائيلية إنها تحتاج إلى ساعات للوصول إلى أهدافها، ما يعني أن المنطقة تدخل، فعليًا، في مرحلة ما قبل الرد أو في قلب الرد نفسه.
حتى هذه اللحظة، لم تتضح بالطبع حدود الاشتباك المستقبلي: هل سيبقى في إطار الضربات المتبادلة المدروسة بدقة لتجنب حرب شاملة؟ أم أننا بصدد تَحوُّل لا يمكن احتواؤه، خاصة إذا تم استهداف العمق الإسرائيلي أو تم الرد الإيراني باستخدام وكلائه الإقليميين؟ فكل من طهران وتل أبيب، ومن خلفهما واشنطن، يعلمون أن التصعيد دون ضوابط، في ظرف إقليمي هش، قد يجرّ المنطقة إلى نزاع مفتوح يتجاوز القدرة على التحكم بمآلاته. وإذا كان الرد الإيراني سيُترجم ميدانيًا عبر حزب الله في لبنان أو الفصائل المتحالفة معها في العراق واليمن وربما سوريا، فإن إسرائيل بدورها ستعتبر أي تصعيد عبر هذه الجبهات بمثابة إعلان حرب من الدولة الإيرانية نفسها.
اللافت أن إسرائيل، كما توحي تصريحات مسؤوليها العسكريين والسياسيين، لم تعد تنتظر موافقة أو غطاءً أمريكيًا مباشرا لشن هجماتها. الإدارة الأمريكية، وإن كانت على اطلاع مسبق، اكتفت بالنأي بنفسها عن المشاركة، على الأقل في العلن، وهو ما يشير إلى تغير في قواعد الاشتباك والتفويض الضمني الذي باتت تتصرف إسرائيل على أساسه. أما الموقف الأوروبي، فهو سيكون، على الأرجح، أقرب إلى التحذير الدبلوماسي والدعوة إلى ضبط النفس، دون القدرة على التأثير الفعلي في مجريات التصعيد، لا سياسيًا ولا عسكريًا.
أمام هذا المشهد، تبدو جبهات أخرى مرشحة للتأثر المباشر: في غزة، حيث ستسعى حماس، أو ما تبقى منها، إلى إرباك إسرائيل على جبهة الجنوب. في سوريا، التي قد تعود ساحة لصراع جوي أو بالوكالة. وفي لبنان، حيث ستعني أي خطوة من حزب الله، احتمال الانزلاق إلى مواجهة خطيرة للغاية. أما الجبهة العراقية، فهي مرشحة لعودة نشاط الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران ضد المصالح الأمريكية أو الإسرائيلية، وقد لا تُستثنى كردستان العراق من هذا الاستهداف، سواء بسبب قربها الجغرافي من إيران، أو بتهم جاهزة بتوفير تسهيلات استخبارية.
أما القوى الإقليمية الكبرى، فلا يبدو أنها تملك ترف التفرج من بعيد. فتركيا، المنخرطة أصلًا في صراعات متعددة ومتحفزة دائمًا تجاه الملف الكردي، تتابع الأحداث بقلق وحذر، وقد تجد فيها فرصة أو تهديدًا. السعودية ودول الخليج، وإن كانت قد انفتحت نسبيًا على إيران في الأشهر الماضية، ستعيد النظر في مقاربتها الأمنية بعد هذا الهجوم، خصوصًا إذا تصاعد خطر المسيرات على الملاحة أو المنشآت الحيوية في الخليج.
اقتصاديًا، يبدو أن الأسواق تتفاعل فورًا مع هذه التطورات. أي مساس بمضيق هرمز، أو تضرر منشآت نفطية في الخليج، سيرفع أسعار الطاقة عالميًا، وسيؤثر سلبًا على الاقتصادات الكبرى والناشئة على حد سواء، في ظرف عالمي يتسم أصلًا بالهشاشة والتباطؤ.
يبقى التساؤل الأخطر مطروحًا: هل يمكن أن تؤدي هذه المواجهة إلى تفكيك أو إسقاط النظام الإيراني؟ الاحتمال قائم نظريًا، لكن السيناريو يتطلب توافر عوامل كثيرة داخلية وخارجية، من بينها انهيار داخلي أو انشقاقات عسكرية أو انتفاضات قومية موازية، وهي عوامل يصعب توفرها مجتمعة وبسرعة رغم قوة الضربة. لكن في حال حدوث ذلك، فإن التداعيات على الأمن الإقليمي والعالمي ستكون عميقة وخطيرة، بما في ذلك انهيار الدولة الإيرانية إلى كيانات متنازعة، وزيادة نشاط الميليشيات غير المنضبط، وتوسع التدخلات الأجنبية من كل حدب وصوب.
في المحصلة، نحن أمام حدث ضخم يتجاوز كونه مجرد رد على برنامج نووي. إنه انفجار لنزاع طويل الأمد ظل ينضج طويلا في الظل، وها هو يطل الآن برأسه على العلن، في مشهد مفتوح على كافة الاحتمالات، من الاحتواء الحذر إلى الانفجار الشامل. وكل قراءة نهائية لحدث بمثل هذه الضخامة والخطورة الآن ستكون سابقة لأوانها، لكن المؤكد أن الشرق الأوسط لن يكون بعد اليوم كما كان قبله.
13 حزيران 2025