مأزق الفكر السياسي الحزبي الكردي الراهن

صلاح بدرالدين

بعد إسقاط نظام الاستبداد، وبزوغ فجر الحرية منذ التاسع من كانون الأول الماضي، وإنعاش الآمال في استكمال تحقيق أهداف الثورة السورية ما بعد الخطوة المفتاحية الأولى، ومعالجة مختلف القضايا، والمشاكل الحياتية، الأمنية، الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، والإعمار وعودة الغائبين، ومن ضمنها وضع الحلول الوطنية للقضية الكردية، وسد هذه الفجوة التي استنفدت الطاقات، والموارد، لعقود خلت، وخلقت إشكاليات حتى أمام طريق الوحدة الوطنية، والعيش المشترك، والتي نشأت نتيجة الحرمان، والاضطهاد، وتفاقمت أضعافًا في ظل نظام البعث الشوفيني الذي وضع مخططات عنصرية، وغير التركيب الديموغرافي للمناطق الكردية.

وبمناسبة طرح الموضوع الكردي مجددا منذ سقوط النظام البعثي الأسدي، لابد من إلقاء نظرة ولو سريعة، وفي هذه المرة وبإيجاز شديد، على المراحل التي تم تداول هذه القضية من جانب أهلها أي في منظور ومناهج التيارات الفكرية والسياسية التي تجسدت في تنظيمات حزبية متتالية وذلك من (١٩٦٥ – ٢٠٢٥)، ومآلاتها فيما بعد.

في السنوات الأولى من انبثاق التنظيم الحزبي الأول، غلب فيها الطابع القومي العفوي، وحلت العواطف، والمشاعر الجياشة – وهي متوقعة لدى أي شعب يعاني الحرمان لقرون – حيث تضمن منهاج الحزب بندا ينص على (تحرير وتوحيد كردستان الكبرى). وبعد حملة الاعتقالات بموجتيها، ووقوف أعضاء القيادة أمام المحاكم، ومواجهة التبعات القانونية في دولة نظامها دكتاتوري أمني شوفيني، حصلت نقاشات، واختلافات بالرأي بين النخب المسؤولة وهم ضمن جدران السجن، ولم يمضِ بضع سنوات حتى انتقلت السجالات إلى التنظيمات الحزبية، وخيم الذهول، والعجز في تشخيص الأزمة، مما سادت نزعات – الشخصنة –، وازدهرت عملية اصطفاف التكتلات – المتمردة – على الحزب عموما، والولاءات لهذا القيادي أو ذاك، ولم يبق أي أثر لموقف قومي جامع واحد، وكان ذلك كفيلا بتوجيه الأنظار إلى العمق الكردستاني كمخرج أو مهرب، وكتعبير عن العجز في معالجة الأزمة.

مرحلة المراجعة وإعادة التعريف
في الخامس من آب ١٩٦٥، وبعد ثمانية أعوام من ميلاد الحزب الكردي السوري الأول، والانتكاسة العميقة التي واجهها، وبهدف الإنقاذ، جرت المحاولة الجادة المدروسة الأولى في الحياة السياسية الكردية، وتمت مراجعة جذرية في الفكر والموقف السياسي، وتشخيص الأزمة بصورة علمية واقعية، إلى جانب إعادة تعريف الشعب، والحقوق، والقضية، والموقف من نظام الاستبداد، والعلاقات الوطنية، والقومية. يمكن إيجازها بالبنود التالية:

١ – الكرد السوريون شعب من السكان الأصليين يعيش على أرض الآباء والأجداد، تتوفر فيه العلائم القومية الخاصة به، ومن حقه تقرير مصيره السياسي والإداري في إطار سوريا الديمقراطية الموحدة.
٢ – القضية الكردية جزء من القضية الديمقراطية للشعب السوري، ولن تحل قضيته إلا بزوال الدكتاتورية.
٣ – الكرد بأمس الحاجة إلى تأطير نضالهم السلمي المدني في حركة سياسية ديمقراطية.
٤ – على الحركة السياسية الكردية السورية نسج العلاقات النضالية مع القوى الديمقراطية على مستوى البلاد، والحركة الوطنية العربية، والحركة الثورية العالمية.
٥ – تعميق العلاقات القومية خاصة مع ثورة أيلول في كردستان العراق وزعيمها مصطفى بارزاني.
٦ – صيانة الشخصية الوطنية الكردية السورية، واستقلالية القرار في جميع التحالفات.

هذه البنود لم تكن مجرد شعارات، بل جرى العمل من أجل شرحها وتحقيقها ليل نهار عبر النقاشات، والإعلام، ومنظمات الحزب في جميع المناطق، والمدن، بتماس مباشر مع الجمهور وخلال أكثر من أربعين عاما، وكانت النتيجة الإقبال الواسع في استيعاب المبادئ الأساسية المنبثقة عن الكونفرانس الخامس من جانب النخب، والفئات المتنورة، وحتى عامة الشعب. وكمثال، فإن صفة “الشعب” فرضت نفسها حتى على من كانوا يستخدمون مصطلح “الأقلية”. وللتاريخ أقول إن عملية إعادة التعريف وضعت حدا للضياع، وصقلت المفاهيم القومية والوطنية، وأعادت الاعتبار لإرادة الشعب ومناضليه، وتظهر قيمة هذه المرحلة أكثر في ردود أفعال نظام الاستبداد، ومن بينها إيفاد الضابط الأمني – محمد منصورة – إلى القامشلي، لوقف ذلك النهوض، واختراق الحزب الذي قاد عملية إعادة التعريف والبناء، ودعم التيارات، والشخصيات الموالية للنظام، من أجل رعاية تيار سياسي كردي تحت السيطرة، في مواجهة النضال الكردي الأصيل المتراكم عبر المراحل التاريخية.

المرحلة التالية
لا شك أن قسما من القيم الفكرية، والمواقف السياسية، والبرامج والمبادرات، التي تبنتها مدرسة الخامس من آب لم تتحقق حينها وتم ترحيلها إلى مراحل لاحقة بسبب وضع الأجهزة الأمنية كل ثقلها لمحاربة حامليها، خاصة في مجال دعم مجموعات موازية موالية، وتسخير قدرات الأجهزة بإشراف – منصورة – باتجاه إصدار وثائق مزورة، وتنظيم حملات إعلامية مضادة، وبث الرعب في أوساط رفاقنا وأنصارنا في كافة المناطق، وحبك العديد من محاولات الاغتيال ليس في الداخل فحسب بل بالخارج أيضا وتحديدا في لبنان، وأربيل. وشهدت أعوام بداية تسعينات القرن الماضي انكفاء في النضال السياسي الكردي السوري، وتحول البرلمانيون الثلاثة المعينون إلى أبواق لمدح النظام دون تحقيق أي مكسب للكرد، وظهرت علائم التردي بأبشع صوره خلال قيام المجموعات الحزبية المتفقة مع – منصورة – بواجب تقديم التعازي (بوفاة البطل المفدى حافظ الأسد؟!)، هذه العبارة منقولة من الصفحات الأولى للصحف الناطقة باسم تلك الأحزاب.

بلغ التردي أوجه بالوافدين الجدد من قنديل بداية الثورة السورية، حسب خطة إقليمية محكمة وضعتها الأجهزة الإيرانية، وباركها قادة كرد عراقيون، فهم جاؤوا لنصرة النظام ضد ثورة الشعب السوري، ووجدوا أحزاب – منصورة – الكردية لقمة سائغة، فتعاملوا معها بوسائل القضم المتدرج، وتكتيك العصا والجزرة. وفي حقيقة الأمر لم يكن هناك خلاف يذكر بين الطرفين بشأن الحالة الكردية الخاصة والاستحقاقات، لأن السقف الأعلى للجميع هو – الحقوق الثقافية – والإدارة المحلية التي وردت أساسا في دساتير نظام البعث. وإذا كان الوافدون من جماعات – ب ك ك – في حل من – كرديتهم – اسما ومضمونا كما أعلنوا ذلك مرارا وتكرارا، فإن الآخرين منشغلون في إيجاد وسائل، ومخارج، للتخلص حتى من أسمائهم – الكردستانية – لأنهم استخدموها أساسا للاستهلاك، والتضليل.

إن التبعية للمحاور – الكردستانية – وحمل أجندتها على حساب الشخصية الكردية السورية المستقلة أخطر ما واجه حركتنا في العقود الثلاثة الأخيرة، وكانت الوظيفة المركزية للوافدين من – قنديل – تحويل قضية الكرد السوريين إلى مشكلة مع تركيا فقط لا غير، وبالأحرى ربطها بمشروع – ب ك ك – في المنطقة. وقد شكل بيان الشرع – عبدي كمينا محكما بهذا الشأن سرعان ما انتبهت الحكومة السورية، وأوضحت أن – قسد – لا يمثل الكرد السوريين، وأن اللقاء والبيان والتواصل لحل مسائل عسكرية – أمنية. أما الكمين الآخر – كونفرانس القامشلي – وبالرغم من اعتباره من جانب المتفائلين تجسيدا للوحدة، فإنه يشكل بنظر الكثيرين قفزة نحو المجهول، لأنه يكرس القضية الكردية السورية – كملحق – بالمشروع الإقليمي لمركز – ب ك ك قنديل –، وهو كما نعلم مشروع مدمر أخفق حتى في موطنه الأصلي، وألحق الأذى بالأجزاء الأخرى، وحتى مؤسسه توصل إلى قناعة بضرورة حله.

من الواضح أن مشروعنا قائم ويستند إلى توفير شروط عقد المؤتمر الكردي السوري الجامع، ولست أدعو هنا إلى وفد بديل، أو محاولة تعطيل خطط أي طرف، ولكن أكرر: لن تُحل القضية الكردية إلا عبر التمثيل الديمقراطي من أصحابها الحقيقيين.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…