شفيق جانكير
تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات جذرية تشبه الزلازل السياسية، بدأت ملامحها بالتبلور منذ اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر 2023، وما تلاها من ضربات ميدانية وسياسية استهدفت معظم أذرع النفوذ الإيراني في المنطقة. هذه التطورات، التي يرى فيها بعض المحللين بداية نهاية لعصر “الحروب بالوكالة”، قد تفتح الأفق أمام مرحلة جديدة، قد تكون ذهبية لإقليم كوردستان العراق والقضية الكوردية بشكل عام.
لطالما مثلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية العائق الأكبر أمام طموحات الكورد في الإقليم، عبر شبكة واسعة من النفوذ داخل العراق، حيث شكلت الحكومات العراقية الواقعة تحت تأثير الفصائل الولائية المرتبطة بطهران أداة ضغط فعالة على أربيل، خصوصا في المراحل الحرجة بعد الاستفتاء على الاستقلال عام 2017. بيد أن الضربات المتتالية التي تلقتها أذرع ايران في المنطقة في الشهور الأخيرة — من تصفية قيادات ميدانية إلى تراجع التأثير السياسي والاقتصادي — قد غيرت من موازين القوى داخل العراق والمنطقة، لصالح قوى أكثر استقلالا واعتدالا.
ضربات قاصمة لحماس، تصعيد ضد حزب الله في لبنان، تراجع الحوثيين في اليمن، وإضعاف دور الفصائل العراقية الموالية لطهران، جميعها أدت إلى تقليص النفوذ الإيراني، وهو ما يمكن وصفه بعملية “قصقصة الأذرع”، التي تبدو الآن كأنها تتجه نحو مرحلة الحسم.
التحول الحقيقي في هذه المعادلة، بدأ مع مجيء الرئيس دونالد ترامب ، وتبني إدارته موقفا صارما ضد طهران، عبر فرض عقوبات مشددة بغية ايقاف برنامجها النووي وتقويض دورها الإقليمي. في ظل إدراك واسع في مراكز القرار الأمريكي بأن استقرار الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق مع استمرار هيمنة الحرس الثوري وأذرعه المتعددة.
في هذا السياق، يبرز إقليم كوردستان كطرف فاعل مؤهل للعب دور محوري في معادلة جديدة قيد التشكل — طرف يمتلك الاستقرار الداخلي، والإرادة السياسية، والقدرة على الانفتاح الإقليمي والدولي.
منذ سنوات، يعمل إقليم كوردستان على ترسيخ نموذج خاص في الحكم، يزاوج بين الانفتاح الاقتصادي والحكم المحلي الفعال. واستطاع الإقليم أن يتجاوز محنه المتعددة — من هجمات داعش، إلى الحصار المالي والسياسي، بفضل قدرة قياداته على إدارة الأزمات، وعلى رأسهم الرئيس نيجيرفان البارزاني، الذي نسج علاقات استراتيجية متينة مع دول الخليج، وتركيا، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وهو ما منح الإقليم حضورا دبلوماسيا لا يمكن تجاهله.
الخطوات الأخيرة التي اتخذها الإقليم في ملف الطاقة، تمثل نقطة تحول كبرى. فالصفقات مع شركات أمريكية لتطوير قطاع النفط والغاز لا تهدف فقط إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، بل تسعى لتحويل الإقليم إلى مزود بديل للعراق عن الغاز الإيراني، وهو ما قد يغير طبيعة العلاقة بين أربيل وبغداد، ويمنح الإقليم ورقة قوة جديدة في المعادلة السياسية الوطنية.
ما يجري اليوم في إقليم كوردستان لا يمكن فصله عن السياق الكوردي الأوسع. فالاستقرار والنموذج الناجح في أربيل يمكن أن يتحول إلى منارة للكورد في سوريا، وتركيا، وإيران، حيث لا تزال المسألة الكوردية تعاني من التهميش أو القمع. وإذا ما استطاع الإقليم أن يثبت نفسه كمركز سياسي واقتصادي، فإن الحلم الكوردي الذي طالما بدا بعيد المنال قد يصبح أكثر واقعية، ولو على مراحل.
في المقابل، من المهم أن يدرك قادة الكورد أن العصر الذهبي لن يأتي فقط كنتيجة للتحولات الخارجية، بل لا بد من تكريس إصلاحات داخلية حقيقية — في الإدارة، والاقتصاد، وحقوق الإنسان — لضمان استدامة هذه اللحظة التاريخية.
في ضوء التطورات الإقليمية والدولية، قد يكون إقليم كوردستان العراق أمام فرصة ذهبية لإعادة صياغة موقعه السياسي والاقتصادي في العراق والمنطقة. هذا العصر الذهبي المحتمل ليس ضمانة، بل فرصة، ولا يمكن استثماره دون وحدة الصف الكوردي، ورؤية استراتيجية شاملة، وعمل دؤوب في الداخل والخارج.
فهل سيغتنم الإقليم اللحظة التاريخية، أم تمر كسابقاتها في ذاكرة القضية الكوردية الطويلة؟
=============