شيرزاد هواري
تُعدّ البيئة من أثمن الثروات الوطنية التي لا تُقدّر بثمن، فهي الحاضن الأساسي للتوازن الطبيعي، والمصدر الأهم للهواء النظيف والمياه، والمأوى لملايين الكائنات الحية. وإنّ الغابات، بأشجارها الوارفة، تُشكّل الرئة التي تتنفس منها الأرض، وتؤمّن غطاءً نباتيًا يحمي التربة من التصحر ويحفظ تنوّع الحياة. ومع ذلك، تشهد سوريا، وتحديدًا منطقة عفرين، واحدة من أكبر المآسي البيئية، نتيجة الانتهاكات الفردية والجماعية التي تهدد ما تبقى من الغطاء الأخضر بالزوال الكامل.
الغابات السورية بين الإهمال والاستنزاف
منطقة عفرين، الغنية بغاباتها ومناطقها الحراجية، تتعرض منذ سنوات لهجمة شرسة تستهدف ما تبقى من بيئتها الطبيعية، وسط غياب شبه تام لأي ردع فعلي من الجهات المعنية. فبعض الأفراد، مدفوعين بجشع مادي ورغبة في الربح السريع، يقومون بقطع الأشجار وتحطيبها بشكل غير قانوني، دون أدنى مراعاة للعواقب البيئية أو المجتمعية. وتزيد الطين بلة منظومات الفساد المتغلغلة في المؤسسات المحلية، التي تغض الطرف عن هذه الممارسات، بل وتتواطأ معها في كثير من الأحيان، من خلال تسهيل مرور الشاحنات المحملة بالأخشاب، أو بتجاهل الشكاوى والنداءات التي تطلقها المجالس المحلية والأهالي.
ولم تقتصر الانتهاكات على الغابات الحراجية فقط، بل طالت أيضًا الأشجار المثمرة والمعمرة. ففي قرى مثل كفرجنة، ماباتا، وبلبلة، جرى اقتلاع مئات أشجار الزيتون والرمان والتين، بعضها يعود لمئات السنين، في مشهد عبثي ينذر بكارثة اقتصادية واجتماعية إلى جانب الكارثة البيئية.
حرائق الغابات… نار تلتهم الحياة
إلى جانب التحطيب الجائر وقطع الأشجار، تشكّل الحرائق المتكررة خطرًا لا يقل فتكًا على الغابات السورية، وخصوصًا في منطقة عفرين ومحيطها. فمنذ سنوات، اندلعت عشرات الحرائق في الأحراش والمناطق الجبلية، بعضها بسبب الإهمال أو سوء استخدام الموارد، وأخرى بفعل فاعل، لأغراض تتراوح بين التوسع الزراعي غير القانوني والتغطية على عمليات التحطيب، أو حتى بهدف تدمير الطبيعة في سياق الصراعات المحلية.
في غابات الزيدية، جبل قازقلي، وهوار بعفرين، اشتعلت النيران مرات عديدة خلال الأعوام الأخيرة، ما أدى إلى تدمير مساحات شاسعة من الأشجار والنباتات النادرة. أما في إدلب وريف اللاذقية والساحل السوري، فقد أصبحت الحرائق حدثًا موسميًا كارثيًا، يحصد الأخضر واليابس ويهدد النظم البيئية الفريدة في تلك المناطق. ومع محدودية إمكانيات الإطفاء والاحتواء، يصبح التعامل مع هذه الكوارث البيئية أمرًا بالغ الصعوبة.
مأساة وطن في مشهد يومي
رغم التحذيرات والدعوات المتكررة لحماية البيئة، فإن الواقع على الأرض يظهر عكس ذلك تمامًا. فالحواجز التي يُفترض بها أن تضبط التعديات، باتت تمرّر شاحنات الأخشاب مقابل مصالح مادية. ومن المؤسف أن هذه الأفعال لا تصدر فقط عن تجار أزمات، بل أيضًا عن بعض ضعاف النفوس داخل المجتمعات المحلية، الذين استغلوا ظروف الحرب والانفلات الأمني لتحقيق مكاسب شخصية، غير مبالين بما يخسرونه من مستقبل نظيف لأبنائهم وأحفادهم.
تقصير المحاكم والجهات المعنية… غياب الردع
ومن أبرز أسباب تفاقم الأزمة، التقصير الواضح من قبل الجهات القضائية والتنفيذية، التي لم تقم بالدور المنوط بها في التصدي الصارم للانتهاكات البيئية. ففي ظل ضعف تطبيق القوانين وغياب الرقابة القضائية الفعالة، أصبح المعتدون على الغابات يشعرون بالحصانة، ما شجع على التمادي في تدمير الطبيعة.
في الوقت الذي يمكن فيه للمحاكم والسلطات المحلية فرض ضرائب وغرامات باهظة على المخالفين، ومصادرة الأدوات المستخدمة في الجرائم البيئية، نراها اليوم غائبة، أو عاجزة عن الفعل، أو متواطئة مع شبكات الفساد التي تغطي ظهر المعتدين. إن إنشاء محاكم بيئية خاصة، وتفعيل القوانين المعطلة، سيكون خطوة مفصلية نحو حماية الغطاء النباتي ومحاسبة المذنبين.
نموذج صارخ: أحراش قرية حج حسنلي
من أبرز الأمثلة على هذه الكارثة البيئية، ما ذكره الإعلامي السوري أبو شام في نداء استغاثة لإنقاذ أحراش قرية حج حسنلي، حيث يقوم أولاد أحد الأشخاص بقطع الأشجار وتحطيبها بشكل سافر. الأسوأ من ذلك، أن والدهم تهجم على الأهالي عندما حاولوا منعه، متحديًا القانون بعبارات نابية، قائلاً: “روح اشتكي خروها!”، في إشارة إلى استهتار مطلق بالقوانين والسلطة والمجتمع.
دور الأفراد والمتخصصين في نشر الوعي البيئي
في ظل هذه الكارثة البيئية المتفاقمة، يصبح الوعي البيئي هو خط الدفاع الأول قبل القوانين والمؤسسات. وهنا تبرز أهمية دور المهندسين الزراعيين، والمعلمين، والناشطين البيئيين، والجهات الإعلامية، في نشر ثقافة الحفاظ على الطبيعة والموارد الخضراء. يمكن للتربية المدرسية أن تزرع في الأجيال الصغيرة حب الأرض والاحترام للغطاء النباتي، ويمكن للمهندسين الزراعيين أن يكونوا مرجعًا للتوعية المجتمعية من خلال الندوات والحملات التثقيفية. كما أن الإعلام، بكافة وسائله، يجب أن يتحول إلى منصة للدفاع عن الطبيعة وكشف الانتهاكات ومحاسبة المذنبين.
الحاجة إلى تحرك عاجل
ما يحدث في عفرين اليوم هو مأساة وطنية بكل المقاييس. إنها ليست مجرد قضية قطع أشجار، بل جريمة بحق البيئة والمستقبل. وإذا لم تتكاتف الجهود من أجل وقف هذه الانتهاكات، فإن ما تبقى من الغابات السورية مهدد بالزوال الكامل خلال سنوات قليلة.
ولذا، يجب العمل على:
- تعزيز دور المؤسسات التنفيذية، ومنحها السلطة الكافية لمعاقبة المخالفين.
- محاسبة الفاسدين والمتواطئين من أصحاب المناشير وسائقي الشاحنات والمسؤولين عن الحواجز.
- تفعيل المحاكم وفرض ضرائب رادعة وغرامات عالية على كل من يعتدي على الطبيعة.
- إطلاق حملات توعية لحث المواطنين على حماية البيئة، ودعم المجالس المحلية في مساعيها لوقف التعديات.
- سن قوانين صارمة وتنفيذها بحزم ضد كل من يعبث بالغابات والغطاء النباتي.
الخلاصة
البيئة ليست ترفًا، والغابات ليست موردًا يُستنزف بلا حساب. إنها خط الدفاع الأول ضد التغير المناخي والتصحر، وهي ملك لكل السوريين، أحياءً كانوا أو أجيالًا قادمة. ما يحدث في عفرين اليوم يجب أن يدق ناقوس الخطر للجميع. فإما أن نقف وقفة واحدة لحماية ما تبقى، أو نستعد لوداع ما كان يومًا رمزًا للجمال والخُضرة والحياة.