السلاح الكردي بين الوجدان والتوظيف السياسي نهاية مرحلة أم بداية مأساة؟

 ابراهيم اليوسف

 

توطئة أولى:

حين يُطرح السؤال عن مصير السلاح الكردي، وبخاصة سلاح حزب العمال الكردستاني، فإن كل كردي شريف، وكل صديق للكرد، لا بد أن يتلبسه شعور مركّب، تتداخل فيه الحيرة بالألم، والأمل بالخوف، والاعتزاز بالحذر. ذلك أن السلاح، رغم جدليته وما سجلناه ونسجله عليه إلى الآن، كان قد تأسس، في مرحلة من المراحل، صرخة كردية في وجه المحو، وتوقاً للكرامة، في زمن لا تزال فيه الخريطة الكردية محكومة بمعادلات اللادولة، حيث يُسجل الضحية إرهابياً، ويُمنح الإرهابي شهادة ضحية، ضمن بازار المصالح الإقليمية والدولية.

ثورة البارزاني والسلاح كذاكرة وجود

وكما كتبت ثورة البارزاني العظمى اسم الكردي في ذاكرة التاريخ المعاصر، حين كان العالم كله مشغولاً بتنفيذ مخطط محوه، وكما يفعل نجله الرئيس مسعود كحكيم وقائد ورمز له مكانته في الشرق الأوسط والعالم، فإن السلاح الكردي، وإن كان مؤذياً أحياناً، عندما يستخدم في وجهه أهله، وفي غير مكانه، وليس دفاعاً عن قضية واضحة، في إطار التصدير لا التحرير، وهو يغدو مضرا بحامله، وذويه، فقد شكّل هذا السلاح في جوهره عنواناً مرتجى. مأمولاً، للوجود، أمام محو جغرافي وثقافي منظم، قادته الدول الكبرى، ونفّذه أولياء أمر السلطات المتعاقبة في جغرافيات التعايش القسري مع الكرد. لقد كانت الحرب- كما السلاح- نواة مشروع إبادة ناعمة حيناً، ودموية في أحيان أخرى.

كفى للقتل

 نقد متبادل ومحنة مزدوجة

لكن، في المقابل، لا يمكن أن يغيب عن ضمير أي كردي حقيقي صرخة “كفى للقتل!”، من الأطراف كلها. من المتضررين لا من تجار الحرب هنا وهناك في كل مكان. فمن يخططون للحرب ضد الكرد محميّون غالباً، أما الكردي، فغالباً ما يُدفع ليقاتل الكردي، سواءً في حرب سلاح، أو حرب تخوين، أو صراع نفوذ، لا يخدم سوى العدو المشترك. هنا تكمن المأساة، حيث يُستنزف الجهد الكردي في الداخل، لا ضد الآخر الذي يريد اقتلاعه، بل ضد الشقيق المختلف.

بين تحرير القائد وفخ الابتزاز السياسي

ومن بين الهواجس الكبرى التي ترافق الحديث عن نزع سلاح حزب العمال الكردستاني، تبرز مسألة القائد عبدالله أوجلان، الذي يقبع في الأسر منذ ربع قرن. هل سيكون فك أسر القائد ثمناً لهذا القرار؟ هل هو تحرير مجرد كردي أم أمة ووطن؟ وهل سيُستثمر لاحقاً كأداة ابتزاز جديدة، كما حدث في محطات كثيرة؟ إن حق أوجلان في مراجعة تجربة حزبه، وقراءة الربح والخسارة، يجب ألا يُستغلا لتصفية الحسابات أو لتطويع الكردي مجدداً، فقد دفع الزعيم أوجلان ضريبة غالية، على امتداد ربع قرن!

المقاومة الكردية بين البطولة والأخطاء

لا أحد ينكر ما قدمه مقاتلو حزب ب ك ك من صمود أسطوري، وتنظيم محكم، شكل علامة فارقة في التاريخ الكردي الحديث. لكن في المقابل، فإن الممارسات الخاطئة لبعض قادته، وسياسات الإقصاء، وتخوين المختلف، وارتكاب انتهاكات سوداء طالت حتى دماء مئات من الكرد أنفسهم في أقل تقدير، تركت أثراً بالغ السلبية، خاصة في الأجزاء الأخرى من كردستان. لقد عمّق ذلك الشرخ الكردي – الكردي، وأعطى الذريعة للمتربصين، لاسيما وهو يصدر- الثورة- كنواة ممكنة لحركة تحرر، خارج مكانه، معتمداً سياسة نفي وإلغاء الآخر، وتشويه نضالاته، وفرض ذاته عبر أدوات العنف وحتى غسيل الأدمغة.

السلاح المرير

 الواقع والمآلات

خلع السلاح مؤلم. نعم. لكنه يتحول إلى كارثة إن لم يُقابل بتحقيق الحقوق، بل إن يُستثمر لاستكمال مخطط الاجتثاث. لقد أصبح واضحاً أن تركيا، التي تلاحق كل شمعة كردية، تتحرك إقليمياً لإطفاء أي جذوة كردية، سواء كانت سياسية، أو ثقافية، أو عسكرية، مستثمرة هذا النوع من “الاستسلام غير المشروط”.

روج آفا

 بطولات لا تُنسى وأسئلة عن الموقع والدور

لا يمكن-  في كردستان سوريا- أن تمحى، من الذاكرة. تلك اللحظات التي وقفت فيها قوات سوريا الديمقراطية، ومعها البيشمركة، في مواجهة أعتى تنظيم إرهابي عرفه العصر الحديث: داعش. كما لا يمكن التغاضي عن صمودها أمام الفصائل المرتزقة المدعومة من جهات إقليمية معادية. لقد غدت، رغم كل الملاحظات والانتقادات، أداة حماية فاعلة للكردي، ودرعاً لوجوده، في وقت كان العالم فيه يتواطأ أو يراقب ما يتم كما حلقات مسلسل مثير، لا أكثر، بدم بارد!

ومع ذلك، فإن هذه القوى- وقد تجاوزت أخطر المراحل-  مدعوة الآن لأن تعيد التفكير في موقعها، أن تتخلى عن ظلال الوصاية الفكرية والسياسية التي خلفها نموذج حزب العمال الكردستاني الذي آزرناه ونؤازره متى ما تعرض لمعركة حقيقية ضد أعداء وجود شعبنا، بما في ذلك  التخلي عن كل ما يمت إلى المركزية الضاغطة، والأيديولوجيا المغلقة، والحزبية على حساب الرابط الأعظم،  بل وفرض الذات خارج مكانه، وكل ما أسهم في إقصاء الشركاء، وتعميق الهوة بين الكردي وبيئته، وبين الكردي وأخيه المختلف. لقد آن الأوان أن تنصهر هذه القوى في أسئلة “مكانها” الواقعي، الكردي، القومي، الوطني، بعيداً عن سطوة التفكير الخارجاني الذي أضعف الذات، وأرهق الآخرين.

النقد الضروري

الوصاية والتدخل والمراجعة

أجل، ونحن نقف في هذه المحطة التي لا ندري أنفرح أم نحزن، ونحن نتعاطف مع كل حلم في صدر مقاتل أو مناضل حقيقي في ب  ك ك لم يسهم في أذى ذويه، لا بد من تمرير نقد صريح لتدخل حزب العمال الكردستاني في شؤون أجزاء كردستان الأخرى، وممارسته لدور الوصاية القسرية. لقد أسهم هذا الدور في خلق أزمات عميقة، وأجهز على قوى كردية تاريخية في كردستان تركيا، بما لم يحلم الأعداء في الأجزاء الأربعة تحقيقه، مع الاعتراف بخلق ب ك ك أسطورة من القوة تكاد لا تضاهى تاريخياً على أمل ألا يكون فكها إإلا من أجل تحقيق أبناء أمتنا، فقد ألحق- للحقيقة- أضراراً فادحة بكردستان سوريا والعراق وإيران. وقد حان الوقت لأن يعيد الحزب وأتباعه-  في كل مكان-  مراجعة جادة لذاتهم، ولخياراتهم، في محورين أساسيين: رفض إلغاء الآخر، والتخلي عن ممارسة الوصاية، والامتناع عن قتل الكردي المختلف فكرياً.

ولرب قائل: أنسيتم وقوف ب ك ك مع أهلهم في كردستان سوريا؟ على سبيل المثال، وهذا صحيح، ولكن، لنسلم جدلاً أن تدخله في شأن كرد روج آفا أو أي جهة خارج كردستان سوريا إنما تتم بدافع قومي خالص، فحسب، لكن هذا ينبغي أن يكون في إطار مساعدة هذا الطرف وذاك والائتمار بأمر قادته المحليين، لا الإجهاز على هؤلاء والإحلال مكانهم، وهو مرفوض حتى في مواجهة شركائه في مكانه في كردستان الشمالية.

السلاح ليس قدراً أبدياً

إن السلاح، مهما كان مسوغاً، فإنه لا يمكن أن يكون قدراً أبدياً. لكن خلعه، يجب ألا يتحول إلى نهاية الوجود. بل إلى بداية مرحلة جديدة، تتأسس على الحقوق، والاعتراف، والكرامة، لا على المساومة والخديعة، وهو ما جاء في مؤتمر قنديل، بحسب ما نشر حول ذلك. وإذا كان للكردي أن يخلع سلاحه، فليكن ذلك في إطار عقد سياسي وأخلاقي، يضمن له السلام، لا أن يُدفع إلى الحائط عارياً من كل أدوات الدفاع، ثم يُطلب منه الرقص على أنقاضه، كما يبتهج الآن بعض الصعاليك أعداء الوجود الكردي، ممن ينتمون إلى أبناء القوميات التي تحتل كردستان.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 Comment
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
د صلاح حدو
د صلاح حدو
6 شهور

العزيز ابراهيم يوسف : ما سطرته من كلمات هو بالضبط ما يجول في نفس كل كوردي . نتمنى ألا يكون استسلاما لينا يدغدغ اردوغان وجماعته بل يجب أن يتحول لبداية جديدة تليق بدماء وآهات الكورد . لك تحياتي أيها الكوردستاني الصادق .

اقرأ أيضاً ...

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…