الفيدرالية: ضمانة لوحدة سوريا وعدالة الشعب الكردي

صلاح عمر

منذ أن خُطّت أولى مبادئ القانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، ترسخ في الوعي الإنساني أن الشعوب لا تُقاس بعددها ولا بحدودها، بل بكرامتها وحقها في تقرير مصيرها. ومنذ ذلك الحين، أُقرّ أن لكل شعب الحق في أن يختار شكله السياسي، وأن ينظّم حياته وفق هويته وتاريخه وثقافته. هذا المبدأ لم يُولد من رحم القوة، بل من عمق المعاناة، من صوت المقهورين الذين صرخوا: “نحن أيضًا بشر… ولدنا لنعيش بكرامة.”

في قلب هذه الحقيقة، ينبض الشعب الكردي في سوريا، الذي كُتب عليه أن يعيش قرنًا من الإنكار والاضطهاد، دون أن يتزحزح عن إيمانه بسوريا التي تتسع للجميع. لقد دُفنت أسماء قراه في رمال التعريب، وجُرّدت أجياله من الجنسية، ومُنع من الغناء بلغته، ومن تعليم أطفاله بها. تم قمع نهوضه السياسي، واعتُقل مفكروه وقادته، وهُجّر شبابه، ودُفن شهداؤه بلا إعلام ولا نشيد. ومع ذلك، لم يُطالب الكرد يومًا بالانفصال، بل ظلّوا متمسكين بسوريا تعددية ديمقراطية، يكونون فيها شركاء لا رعايا، مؤسسين لا طارئين.

اليوم، وبعد سنوات الجمر السوري، حيث سقطت الأقنعة وتهاوت الشعارات، بات السؤال واجبًا وملحًا: كيف نعيد بناء سوريا من جديد؟ وكيف نمنع تكرار دورة الاستبداد والتهميش؟ الجواب لم يعد نظريًا ولا شعارًا عاطفيًا، بل بات ضرورة سياسية وأخلاقية: الفيدرالية.

الفيدرالية ليست اختراعًا كرديًا، ولا مؤامرة تفتيت، كما يصوّرها بعض المهزومين. إنها منظومة حكم حديثة تطبّقها عشرات الدول الناجحة، وتضمن عبرها التوازن بين وحدة الدولة وحق الأقاليم في إدارة شؤونها الذاتية. إنها تَحول دون احتكار المركز، وتمنع استبداده بالمجتمعات، وتتيح لكل مكون أن يعبر عن نفسه، ويمارس ثقافته، ويطوّر مؤسساته، في إطار الدستور الوطني الواحد. هي ليست تقسيمًا، بل أرقى أشكال الوحدة الطوعية، وأقوى صيغ التماسك السياسي.

وللشعب الكردي، لا تعني الفيدرالية إقامة دولة منفصلة، بل تعني الخروج من الظل، والعيش كأمة ذات كيان قانوني وإداري ضمن وطن يحتضن التعدد. تعني أن لا يعود مصير الكرد مرهونًا بمزاج ضابط أمن، ولا مستقبل أطفاله مربوطًا برؤية بعثية عنصرية. الفيدرالية تعني أن نعيش معًا – كردًا وعربًا وسريانًا وآشوريين – لا فوق بعضنا، بل إلى جانب بعضنا، بإرادة حرة وشراكة متوازنة.

إن التجارب من حولنا واضحة. إقليم كردستان العراق، رغم التحديات، أصبح نموذجًا ملهمًا لشعب نال جزءًا من حقوقه في ظل الفيدرالية. فماذا يمنع كرد سوريا، الذين قدموا آلاف الشهداء في مواجهة داعش ونظام القمع معًا، من أن ينالوا حقهم في إدارة منطقتهم، في صياغة مناهجهم، وفي تمثيل أنفسهم على طاولة القرار السوري القادم؟

من يقول إن الفيدرالية تهدد وحدة سوريا، فليخبرنا: هل حافظت المركزية على هذه الوحدة؟ ألم تكن المركزية الطاغية هي من فجّرت البلاد؟ ألم تُنتج سجونًا وأقبية تعذيب ونزوحًا بالملايين؟ سوريا ما بعد 2011 لن تعود كما كانت، والتاريخ لا يعود إلى الوراء. من يريد الحفاظ على ما تبقى من الوطن، فليقبل بأن تكون الفيدرالية عقدًا جديدًا بين المكونات، لا إعلان طلاق، بل تعهد شرف.

نحن الكرد، لا نطلب صدقة من أحد، ولا نستجدي اعترافًا من سلطة. نحن نطلب، بصوت القانون والعقل والدم، أن نكون جزءًا من هذا الوطن بكرامتنا، بهويتنا، بلغتنا، بثقافتنا، بقرارنا. نطلب سوريا جديدة، لا تحكمها أكثرية عددية، بل عدالة دستورية. نطلب دولة تُبنى على ميثاق شراكة لا مبدأ غلبة، وعلى فدرالية تضمن وحدة سوريا لا مركزيتها، وتحمي الكرد من التلاشي والذوبان.

الفيدرالية ليست معركة الكرد وحدهم، بل معركة كل من يؤمن بسوريا مختلفة، سوريا لا تبتلع أبناءها، ولا تقصي مكوناتها، سوريا المستقبل.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين تمر سوريا بظروف سياسية واقتصادية واجتماعية مُعقّدة ، يجد الإنسان السوري نفسه في ظلِّها أمام تحدّي التوفيق بين هوياته المتعدّدة. فهو من جهة ينتمي إلى الوطن السوري، وهو الانتماء الجامع الذي يحمل الهوية وجواز السفر والشهادة ، ومن جهة أخرى، يرتبط بانتماءات فرعية عميقة الجذور، كالقومية أو العرق أو الدين أو الطائفة. ويخلق هذا التنوّع حالة من…

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…