قليلون جدّاً، هم الكتّاب العرب الذين هم على دراية واطلاع جيّدين على حيثيات وتفاصيل المشهد الكردي في تركيا، وبكر صدقي هو من طينة هؤلاء القلائل.
وقد بدأ هذا التسلسل بمقتل 7 جنود اتراك، في كمين نصبه مقاتلو الكردستاني في محافظة توكات، و «تبنّي» الكردستاني لهذه العمليّة، كمدخل لمقاله.
والحقيقة، لمن أراد الرجوع إلى بيان الجناح العسكري للكردستاني، المتعلّق بالعمليّة، أنه لم يكن هناك أيّ تبنٍّ لها!.
وحزب العمال لم يتحمّل مسؤوليّة تلك العمليّة، ولم يأمر بتنفيذها.
وإذا كان البيان، ينقصه التنديد بالعمليّة، إلاّ أنّه تبرأ منها صراحةً.
لكنّ كتّاب الأعمدة في الصحف التركيّة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، من الإسلاميين والعلمانيين، عزفوا على الوتر نفسه الذي عزف عليه صدقي!.
ومن الأهميّة في كاتب من وزن صدقي ألاّ يتغافل عن إضافة شذر من المعيطات الاخرى، ومنها:
عدد المقاتلين الاكراد الذين قتلوا في هجمات وتمشيطات الجيش التركي، منذ آذار (مارس) ولغاية الآن، وصل الى اكثر من 80 مقاتلاً!.
عدد قيادات وكوادر حزب المجتمع الديموقراطي الذين تمّ اعتقالهم منذ آذار وصل الى 800 شخص.
عدد المدنيين الاكراد الذين قتلوا على أيدي قوات الأمن والجيش التركي منذ آذار، تجاوز الـ15 شخصاً، بينهم اطفال.
تصريحات الحكومة والمعارضة والجيش، وملاحقها الإعلاميّة، الشاجبة والمنددة بأداء الحزب الكردي، وجدت الترديد الببغاوي من بعض مراسلي الصحف وقنوات التلفزة العربيّة (مراسل «الجزيرة» عمر خشرم)!.
دعوى حظر الحزب الكردي موجودة في المحكمة الدستوريّة منذ سنتين، وتمَّ اتخاذ قرار الحظر خلال اسبوع!.
قرار الحظر كان بعد عودة اردوغان من واشنطن، ولقائه أوباما!، وتعليق المسؤولين الأميركيين على القرار بأنّه «شأن داخلي»!.
كان الحزب الكردي ينوي فتح مكاتب له في حلب ودمشق وطهران وساقز واربيل وواشنطن.
وفي اعتقادي أن عوامل داخليّة وإقليميّة ودوليّة، تضافرت، وفرزت حظر الحزب الكردي.
فهذا الحزب، جدد التواجد السياسي للعمال الكردستاني في قلب البرلمان التركي.
وتجربته نجحت في إيصال 17 وجهاً كردياً الى البرلمان التركي عام 1991، ومن بينهم المناضلة ليلى زانا.
وإنّ دلّ هذا على شيء، فإنّما على نيّة الكردستاني حلّ القضيّة الكرديّة، داخليّاً وسلميّاً، منذ كان في أوج نشاطه المسلّح، مطلع التسعيات.
وعزز اوجلان توجّهه السلمي هذا، بأن قبل وساطة الرئيس العراقي الحالي، وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، جلال طالباني، كوسيط بينه وبين الرئيس التركي الراحل تورغوت اوزال، وأعلن عن وقف لإطلاق النار من جانب واحد في آذار 1993.
وجرت أحداث دراماتيكيّة، نسفت جوّ الثقة المتنامية بين أوزال واوجلان وقتئذ، ومنها أسر مجموعة من مقاتلي الكردستاني لـ38 جندياً تركياً، عزلاً من السلاح، كانوا في إجازة، في منطقة بينغول، وتصفية 33 وجرح 5!.
واتضح فيما بعد، ارتباط القادة الميدانيين لحزب العمال في تلك المنطقة، بشبكة ارغاناكون، التي تحاكم الآن، بوصفها أحد اذرع «الدولة الخفيّة» في تركيا.
ولقد انتقد حزب العمال تلك الجريمة.
وأقال اوجلان قائد المنطقة، شمدين صاكك وأحيل الى محاكمة عسكريّة (ثوريّة)، واتخذ في حقّه قرار الاعدام.
لكن اوجلان، رفص القرار، ومنحه فرصة جديدة.
ثم جاءت وفاة اوزال المفاجئة… وعموماً فأوجلان لم ينقلب على طروحاته السلميّة، بعكس ما ذهب إليه صدقي، ولم يكن في سباق مع أردوغان، حول المساعي السلميّة.
بل كان دوماً السبّاق إلى طرح المبارات السلميّة، حتّى لو كانت من كيس حقوق الاكراد، حقناً للدماء.
يقول صدقي: «وانقلب أوجلان على موقفه الأول، قبل نحو شهر، فأعلن بصراحة عن «إغلاق صفحة» تأييده للحل السلمي».
والحقّ إنّ متابعاً حصيفاً، شأن بكر صدقي، ما كان ليجازف بإطلاق وجهة النظر هذه لو دقق في الاحداث مليّاً.
فحين طالب اوجلان بإرسال مجموعتي سلام، من مخيّم مخمور في العراق، ومن جبال قنديل، وتحقق ذلك، ظهرت الهجمة الشرسة من الحكومة والمعارضة والجيش والاعلامي التركي على تلك الخطوة الجدّ إيجابيّة، ووضع إدارة السجن، التابعة لوزارة العدل، في حكومة اردوغان، على «خريطة الطرق»، التي كتبها اوجلان بيده، وحجم الاعتقالات والتمشيطات…الخ.
وكل ذلك، دفع اوجلان، ويدفع أيّ زعيم في موقعه، لأن يتراجع، ويشكك في نيات أردوغان.
وهذا ليس «انقلاباً».
فلو قرأ صدقي تصريح اوجلان على قرار المحكمة الدستوريّة التركيّة بحق الحزب الكردي، إذ قال: «هذا لا يعني نهاية العالم.
على الاكراد مواصلة الخيار السلمي الديموقراطي، وتأسيس تكوين سياسي جديد»، لما جازف بوصف سلوك اوجلان بـ «الانقلاب»!
ويتماهى بكر صدقي، في ختام مقاله، مع وجهة النظر التركيّة، التي تسعى دوماً للجمع بين العمال الكردستاني وزعيمه والمؤسسة العسكريّة والمتطرفين الاتراك ضمن صورة فوتوغرافيّة، في مسعى لتنزيه وتبرئة اردوغان، والتسويق له، كملاك عدالة وسلام، تتربّص به الشياطين!.
فاردوغان، في أفضل أحواله، هو احد ادوات الدولة، وهذه المرحلة التي تمرّ فيها تركيا تستوجب وتستلزم شخصاً من طينة أردوغان، المتعدد الأقنعة.
* كاتب كردي