سوريا نحو الاستبداد الدستوري

د. محمود عباس

 

 هل يرسّخ أحمد الشرع حكمه للأبد؟

أربع نقاط في مسودة الدستور السوري الجديد تهدد الديمقراطية والتعددية في سوريا.

مسودة الدستور السوري الجديد، التي وقع عليها السيد أحمد الشرع بصفته رئيس الجمهورية العربية السورية، تمثل خطوة أخرى في مسار تدمير الديمقراطية في سوريا، إذ تؤسس لدستور لن يدوم إلا بقدر بقاء النظام الذي وضعه، تمامًا كما حدث مع الدساتير الستة السابقة منذ عام 1950م. هذه الوثيقة كسابقاتها لا تعكس تطلعات الشعب السوري بمكوناته المتعددة، بل تعيد إنتاج نظام إقصائي يناقض الشعارات التي روجت لها الحكومة الانتقالية وأطراف واسعة ممن كانوا يدّعون تمثيل المعارضة.

  1. اشتراط أن يكون دين رئيس الجمهورية الإسلام:

هذه المادة تُجهِز على أسس المواطنة المتساوية وتفرغ الديمقراطية من مضمونها الحقيقي، إذ تحصر منصب الرئاسة في فئة دينية محددة، مما يعني إقصاء غير المسلمين، بل وحتى المسلمين الذين لا يندرجون ضمن الإطار الذي يحدده النظام. كما تتناقض هذه المادة مع ادعاءات بناء دولة تعتمد على الكفاءات في إدارتها. ثم ماذا عن حق المرأة في الترشح لهذا المنصب؟ هل سيكون هذا القيد الديني عقبة أخرى أمام مشاركة المرأة السياسية في أعلى سلطة تنفيذية؟

  1. اعتماد الفقه الإسلامي كمصدر أساسي للتشريع:

 أحد أخطر البنود في الدساتير هو فرض الدين على هوية الدولة وثقافتها، حيث يؤدي ذلك إلى خلق صراعات داخل المجتمع، خاصة في بلد مثل سوريا، الذي يتميز بتعدد انتماءاته الدينية والطائفية. ورغم أن المجتمع السوري متدين بطبيعته، إلا أنه بعيد عن التطرف. هذه الخطوة خطيرة تقوض أسس التعددية في سوريا، إذ يستبعد المكونات الدينية غير المسلمة، مثل المسيحيين والإيزيديين وغيرهم، ويخلق حالة من الإقصاء القانوني والسياسي لهم، الأخطر من ذلك، أنه لا يقتصر أثره على غير المسلمين فقط، بل يثير قلقًا حتى داخل الطوائف الإسلامية، حيث يجعل التشريع خاضعًا لتفسيرات دينية ضيقة قد لا تعكس التنوع الفقهي داخل الإسلام نفسه.

إن فرض مرجعية دينية واحدة على التشريع يؤدي إلى تقييد الحريات وتقنين التمييز، حيث تصبح القوانين أداة لفرض رؤية دينية معينة على المجتمع بأسره، مما يعيد البلاد إلى عصور التسلط الديني والفكري. الدولة المدنية تقوم على مبدأ المساواة بين جميع مواطنيها، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، أما حين يصبح الدين أساس التشريع، فإن ذلك يفتح الباب أمام قمع الحريات الفردية، وشرعنة التمييز، وعرقلة التطور الاجتماعي والسياسي.

إن التجربة التاريخية أثبتت أن المجتمعات التي خضعت لأنظمة دينية متشددة لم تؤدِّ إلا إلى مزيد من التوترات والصراعات الداخلية، لأن التشريعات الدينية ليست ثابتة، بل تخضع لتفسيرات وتأويلات متعددة، ما يجعلها ساحة مفتوحة للخلافات والنزاعات المستمرة. وبالتالي، فإن إقحام الدين في التشريع لا يضمن الاستقرار، بل يخلق مناخًا من الإقصاء والتطرف، يحوّل الدولة إلى ساحة صراع أيديولوجي بدلاً من أن تكون فضاءً جامعًا لكل مواطنيها.

  1. إقصاء حقوق المكونات السورية الأخرى، وعلى رأسها الشعب الكوردي:

إن عدم الاعتراف بحقوق الشعب الكوردي والمكونات الأخرى في الدستور يعكس استمرار سياسة التهميش والإقصاء التي انتهجتها الأنظمة السابقة. إن تجاهل حقوق هذه المكونات، وخاصة الشعب الكوردي، الذي يشكل جزءًا أصيلًا من النسيج السوري، لا يخدم إلا تعزيز الانقسامات والتوترات الداخلية، مما يقوض أي فرصة حقيقية لبناء دولة سورية قائمة على العدالة والمساواة.

  1. إقرار اللغة العربية كلغة رسمية وحيدة للدولة دون الاعتراف باللغة الكوردية وبالشعب الكوردي أو كما قيل جدلاً،على الأقل (المجتمع الكوردي!):

إن فرض اللغة العربية كلغة رسمية وحيدة في الدستور، دون الإشارة إلى اللغة الكوردية، هو إقصاء مباشر لهوية الشعب الكوردي وحقوقه الثقافية واللغوية والسياسية. الكورد في سوريا ليسوا مجرد أقلية، بل هم أحد المكونات الأساسية في البلاد، ولغتهم ليست مجرد لهجة محلية، بل لغة حية تمتد جذورها في عمق التاريخ. إن تجاهل اللغة الكوردية في الدستور يعكس استمرار نهج الصهر القسري ومحاولة محو الهوية الكوردية، وهو أمر يتعارض مع أي مفهوم للديمقراطية الحقيقية أو حقوق الإنسان.

لا يمكن النظر إلى مسودة الدستور السوري الجديد إلا على أنها استمرار لمنهجية إقصائية تهدف إلى ترسيخ الحكم الفردي تحت غطاء قانوني. فبدلاً من أن يكون الدستور تعبيرًا عن إرادة جميع السوريين، جاء ليعكس مصالح فئة معينة، متجاهلًا التعددية السياسية والثقافية والاجتماعية التي تتميز بها سوريا.

إحدى أبرز الإشكاليات تكمن في المرحلة الانتقالية التي تمتد لخمس سنوات، حيث لم يتم تحديد عدد الدورات الرئاسية، مما يفتح الباب أمام حكم غير محدود زمنيًا. إن مثل هذه الصياغات تجعل الانتخابات مجرد إجراء شكلي، إذ يبقى الرئيس في منصبه إلى أجل غير مسمى، ما لم تحدث ظروف استثنائية تفرض تغييرًا جذريًا. إلى جانب ذلك، فإن منح الرئيس سلطة تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب يعني عمليًا أنه يتحكم بالعملية التشريعية بالكامل خلال هذه المرحلة، ما يحوّل المجلس خلال هذه المرحلة، من ممثل للشعب إلى أداة طيعة بيد السلطة التنفيذية.

القوانين والدساتير العادلة هي التي تُصاغ لحماية جميع المواطنين دون استثناء، وليس لحماية مصالح فئة على حساب أخرى. وكما أشار أحد الفقهاء الدستوريين، فإن الدساتير التي تُكتب لتخدم السلطة، وليس الشعب، لا تدوم طويلًا، لأنها تفشل في تحقيق الاستقرار الحقيقي، بل تؤدي إلى مزيد من التوترات والصراعات.

إن التغيير الحقيقي لا يكون بصياغة نصوص تحمل وعودًا شكلية، بل بخلق نظام قانوني يحمي حقوق الجميع دون تمييز. أما حين يكون الدستور نفسه أداة إقصاء، فإنه لا يكون سوى خطوة أخرى في طريق إعادة إنتاج الاستبداد بواجهة جديدة، وعندها يصبح الحديث عن الديمقراطية والعدالة مجرد وهم يُستخدم لتبرير استمرار السلطة في يد نخبة ضيقة تتحكم بمصير البلاد.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

13/3/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…