زمن الزور زمن التزوير

إبراهيم اليوسف

يقتلع”الزور” الجزر
أي القوة
مثل كردي

لقد بلغ العنف والتدمير مرحلة ما بعد الحداثة، فلم يعد مجرد أداة صراع بل تحول إلى نسق شامل، يعيد تشكيل الواقع وفق منطق القتل والفناء. إذ لم تعد الأسئلة الكبرى عن معنى السلطة والشرعية والوجود تجد مكاناً لها، لأن القاتل لم يعد مضطراً حتى لتسويغ جرائمه. إننا- هنا- أمام زمن يعيد إنتاج الموت بطريقة تجعله أكثر كفاية، أكثر تقنية، وأكثر قبولاً في الوعي الجمعي، حيث تُمحى الذاكرة ولا يبقى إلا الواقع المُصنّع. فلم يعد القتل- في زمن بعد الحداثة- مجرد عملية فيزيائية تنهي حياة فرد، بل بات جزءاً من هندسة سياسية وإعلامية تُعيد تشكيل العالم. في الحروب التقليدية،  لقد كان القتل- بكل مأساويته وبشاعته ولا إنسانيته- وسيلة لتحقيق النصر، أما الآن، فهو غاية بحد ذاته، يراد منه: تفريغ الأرض. محو الشعوب. وتدمير كل رابط بين الإنسان ومحيطه. لقد انتقل العنف من خانته مجرد أداة لإخضاع الأفراد إلى أسلوب لإعادة تشكيل التاريخ، حيث تصبح الضحية مسؤولة عن موتها، والقاتل يتحول إلى بطل: محررمقرر، والمجازر إلى “أحداث جانبية”.، كانت بروفات لخلق دكتاتوريات جديدة، بربطات عنق مختلفة، وأجهزة أمن، وأدوات تعذيب مختلفة.
أما التدمير، فقد أصبح فناً متقناً، لا يقتصر على المدن والمنشآت بل يتعداها إلى الذاكرة الجمعية. حين تُهدم المعابد، تُحرَق المكتبات، ويُزَوَّر الأرشيف، فإن الهدف ليس الانتصار في معركة آنية، بل محو أي احتمال للمقاومة الثقافية في المستقبل. فالدمار المادي ليس سوى خطوة أولى نحو التدمير المعنوي، حيث يُدفَن الماضي، وتُستبدل الحقائق بوهم جديد.
ولكي ينجح هذا المشروع في إبادة المختلف  غير المؤتلف، فإن القوة المادية لا تكفي، بل لا بد من تزوير التاريخ والجغرافيا. عندما يُحرَّف الماضي، عندما تُستبدل الوقائع بالأكاذيب، عندما تتحول الضحية إلى جلاد في الرواية الرسمية، عندها يتحقق الموت الحقيقي: موت الذاكرة.
ولابد من الإشارة، هنا، إلى أن الجغرافيا لم تسلم أيضاً من التزوير، سابقاً، والآن، فالخرائط التي تُرسم، الحدود التي تُعاد صياغتها، الأسماء التي تُمحى وتُستبدل، كلها جزء من إعادة تشكيل الواقع وفق مصالح القوة المهيمنة. تُمحى المدن من الخرائط، يُعاد ترسيم الحدود، يُستبدل السكان بمستوطنين جدد، وكل ذلك يحدث دون ضجيج، تحت ستار “التنمية” أو “إعادة الإعمار”، في حين أن الهدف الحقيقي هو محو الهوية وإعادة إنتاج الشعوب وفقاً لنموذج جديد مفروض بالقوة.

إنه زمن الفوتوشوب وإعلام ما بعد الحداثة ياصديقي!
ما عاد  التزوير في زمن الفوتوشوب، في حاجة إلى جهد كبير، فالحقائق يمكن إعادة تشكيلها بضغطة زر. صورة واحدة، مُعدَّلة بمهارة، يمكنها أن تعيد كتابة التاريخ بأكمله. كما أن الجمهرات. بل الجمهور الكوني  لم يعد  يبحث في وسائل التواصل الاجتماعي، عن الحقيقة، بل عن الرواية الأكثر جاذبية وخواء، الأكثر انتشاراً، بغض النظر عن مدى صحتها. لقد أصبح الإعلام في مرحلة ما بعد الحداثة صانعاً للواقع وليس ناقلاً له، فلم تعد الحروب تُحسم في ساحات المعارك، بل على الشاشات، حيث يمكن لصورة أو مقطع فيديو أن يغير مصير شعب بأكمله.
كما أن الأخطر من كل  ذلك،  يكمن في أن الأكاذيب أصبحت أكثر انتشاراً من الحقائق، لأن الزيف أكثر إثارة، أكثر ترويجاً، وأكثر انسجاماً مع منطق القوة. بل لم يعد الإعلام يبحث عن الحقيقة، بل عن “الحقيقة البديلة” التي تخدم مَن يملك السلطة. في هذا الزمن، ليس المطلوب فقط تبرير الجرائم، بل تحويلها إلى سرديات مقبولة، تجعل الضحية متهمة، والمعتدي صاحب حق.
في هذا الزمن، أصبح التزوير هو الحقيقة الوحيدة، وأصبح التاريخ مجرد منتج يُعاد تشكيله وفق الحاجة. وهنا، فإنه عندما تُحرَّف الوقائع، في إطار عملية إبادة الشعوب، وتُعاد صياغة الخرائط. كخلف مجرم ناعم الكفين لسلف وحشي متدرن الدماغ، فإن النتيجة ليست فقط ضياع الحاضر، بل فقدان المستقبل أيضاً. كي يظل السؤال المدوي: هل يمكن للزيف أن يكون أبدياً؟ أم أن الحقيقة، مهما تأخرت،  فإنهالا بد أن تجد طريقها للظهور؟
-من جهتي: مازلت أعقد بل أنصب شبكة التفاؤل العظيم ولا أرميها في وحل الواقع ومستنقعه في انتظار لحظة انقشاع السراب وعودة ماء اليم ولو الأجاج في زمن لصوص”البيض والدجاج”!*
* السجعة الأخيرة: في إطار”فش الخلق”

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…