من كهوف الظلام إلى عرش الدم: مأساة الأرض بين أنياب التاريخ

 بوتان زيباري

تتجلى في هذا المكان اليوم لوحة من التناقضات التي يعجز العقل عن استيعابها؛ أرض كانت مهدًا للحضارات تحولت إلى مسرح عبثي حيث تتشابك الأزمنة في ملحمة مأساوية تُعيد سرد حكايات العصور الغابرة، لكن بألوان أكثر قتامة. تُطل الحواضر من شرفات الخراب، تُطالع صدى أقدام غريبة عن روحها، تنظر إلى نفسها في مرآة الزمن فلا ترى إلا ملامح مشوهة، وكأنها تسير في حلم ثقيل لا تعرف له نهاية.
على أرصفة المدن القديمة، حيث كانت تمر قوافل التجارة والعلم، تجوب الآن كائنات خرجت من رحم الكهوف، تحمل على أكتافها بقايا أيديولوجيات متكلسة، وتجر خلفها ظلالًا طويلة من الخوف والتسلط. ترتدي جلابيب غابرة، وتُطلق لحى شعثاء، كأنما عاد الزمن أدراجه ألف عام إلى الوراء، حيث سطوة الفرمانات والرقاب المقطوعة تحت سيف الشريعة المشوهة. بين الأزقة الملتوية، ترتفع الهتافات الجوفاء التي تَعِد بالخلاص، بينما تسيل الدماء بين أقدام الوعود الكاذبة.
لم يكن هذا الانحدار إلا تتمة لمسيرة بدأت عندما ارتجت هذه الأرض على وقع ثورة حملت في طياتها كل التناقضات؛ كانت للبعض صرخة حرية، ولآخرين فوضى وجحيمًا مفتوحًا. تبدلت الشعارات كما تتبدل الأقنعة، حتى استيقظ الناس على كابوسٍ لم تتخيله حتى أكثر العقول جنوحًا للخيال. في هذا المستنقع الذي ابتلع كل أحلام التحرر، وُلد طاغية جديد، لكنه لم يكن هذه المرة يحمل صولجانًا ذهبيًا أو يعتلي عرشًا في قصر فخم، بل جاء برداء الدين، مُمسكًا بسوط العقيدة، يُصدر الأحكام ويُهلك الحرث والنسل باسم الفضيلة.
في المدن التي كانت يومًا تنضح بالألوان والأنغام، ساد الصمت والكآبة. الأسواق التي حملت في أجوائها عطر التاريخ، غدت أثرًا بعد عين، مجرد ذكرى على جدران محترقة. الأحياء التي كانت منبعًا للمحبة، أضحت ميادين تعج بالأشباح والناجين من الطوفان. في هذه الأماكن، يُستدعى الماضي لا ليكون درسًا، بل ليُعاد فرضه بالقوة، كأنما قرر التاريخ أن يلعن هذه الأرض بلعنة الأزل.
ووسط هذا الخراب، يجلس شيخ يرتدي زيَّ الوعاظ القدامى، يُلقي خطبته عن الخضوع والطاعة، بينما في يده الأخرى سيف مُلطخ بدماء من تجرأوا على السؤال. كُتب التاريخ تُفتح، لكن لا لنتعلم منها، بل لنُعيد اجترارها في نسخ أكثر قسوة. الفرمانات القديمة تُعاد كتابتها، تُذيل بدماء المخالفين، وكأن البلاد محكومة بلعنة الزمن الدائري، حيث لا فرار من أعماق الكهف.
لكن، هل يُمكن للنهار أن يُبدد هذا الليل الدامس؟ هل يُمكن للزهر الذي أُثقل بدموع أهله أن يُزهر من جديد؟ في تلك الأرض التي كانت يومًا مهدًا للنور والمعرفة، يبقى الأمل كجذور شجرة قديمة لم تمت رغم الحرائق. وربما، عندما تتعب السيوف من التلويح، وعندما تملّ الأقدام من دوس الأحلام، ستستيقظ هذه الأرض لتكتب صفحة جديدة، لا تُشبه ما مضى، ولا تكرر مآسي الأجداد.
السويد
29.01.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…