افتتاحية موقع مواطنة
لكي تبقى الثورة متجددة وحريصة على لفظ عيوبها باستمرار, يتوجب علينا أن نقف على اخطاء ارتكبت ونحاصر تمددها ونمنع تكرارها -مهما كانت الاسباب والذرائع التي تسببت بارتكابها- علنا نتلمس معاً حلولاً ومسارات لتجاوزها.
بداية لابد من الاقرار بأنه لولا صمود شعبنا على مدار السنوات الخمس ولولا تضحياته الجسام الاسطورية, لما تحقق انحسار هذه السلطة الغاشمة وارغامها على الجلوس الى طاولة المفاوضات في جنيف, وذلك ضمن مسعى دولي لتحقيق “انتقال سياسي” في سورية وهو بالتأكيد ليس من مصلحة بشار الاسد, وعليه دعونا هنا نقرّ بدور العامل الخارجي فيما تحقق من لي ذراع السلطة ميدانياً (فك بعض الحصارات, الحد من آلة حرب النظام وحلفاءه,..) ودبلوماسياً (القرارات الأممية التي تدعو للانتقال السياسي واعداد دستور جديد للبلاد واجراء انتخابات برلمانية ورئاسية).
لقد ابتليت الثورة السورية بحقبة الهيمنة التركية/القطرية على قرار المعارضة منذ تشكيل المجلس الوطني برعاية “الاخوان المسلمون” حتى الائتلاف وخفت حدّتها في مؤتمر الرياض الاخير حيث تشكلت الهيئة العليا للتفاوض لتضم الى جانب الائتلاف الوطني عدة قوى مسلحة معارضة مهمة بلغت 18 فصيلاً, فضلاً عن هيئة التنسيق الوطنية وتيار بناء الدولة, مما أسهم بخلق بنية أوسع تمثيلاً سياسياً وميدانياً وأكثر حضوراً…
والى أن يعود القرار المعارض المنفي الى سوريته, يمكننا تسجيل الملاحظات التالية:
– لم تستطع الثورة السورية بناء بنية تمثيلها السياسي بالداخل وبقينا أسرى بنى المعارضة الخارجية موضوعياً, وبالطبع وقعنا بمشكلة أجندات ودور الجهات الداعمة وتأثيرها بالتشكيلات السياسية المتعاقبة في تمثيل الثورة.
– لم تستطع الثورة الاستمرار بسلميتها ومدنيتها بسبب شدة بطش النظام, فتسلحت برد فعل ولم تستطع الكتائب المسلحة الناشئة من التوحد كما يجب او اعتماد وحدة التنسيق المركزي على الاقل.
– تصدرت المشهد السياسي المعارض احزاب وقوى سياسية لم تتخلص من منطق الانتقام في سلوكها بسبب الجور الهائل الذي تعرضت له ابان حكم الاسد الاب والابن, فاختطف القرار السياسي لغة ثأرية عالية السقوف, مراهنة على ارتفاع نبرة الشارع وعلى سرعة اسقاط النظام, دون ان تبني موقفها على القدرات الميدانية العيانية ودون ادراك الاستراتيجية اللازمة لتحقيق تلك السقوف.
– ظهرت كتائب ومجموعات مسلحة منفلتة و بلا تأسيس معرفي وقيمي حتى عسكرياً, أدى لانعدام الالتزام بقواعد الاشتباك وخوض معارك مضرّة وفي غير موضعها, وطبيعي غياب احترام مدونات الاخلاق والاسس القانونية الناظمة للحروب من قبل الكتائب والمسلحين عموماً.
– نمو العصبيات الأقوامية وماقبل الوطنية, التي كشفت عن فقدان اللغة المشتركة بين مكونات المجتمع السوري وعمق الانقسام العمودي, ولم توفر الدول الاقليمية ومصالحها المتعارضة الفرصة لتخترق وحدة النسيج المجتمعي فغاب العمل الموحد ضمن استراتيجية محددة.
– تفاقم لغة التدين والتطرف الطائفي برد فعل من جنس سلوك النظام وممارساته الطائفية, الامر الذي فاقم من عزلة الثورة السورية ويتّمها دولياً ومحلياً وساهم بتفاقم عزوف الاقليات عنها.
– استيقاظ مظالم قومية عتيقة للكرد السوريين, وبالتالي قيام قوات الحماية الشعبية التي لم تتقاطع مع الثورة بما يكفي, مما خلق تناقضاً كان من الممكن تذليله لو قدمت المعارضة خطاباً حقيقياً يستشعر حقوق الكرد المشروعة.
… الثورة التي تمر بمخاض مؤلم عسير لعدم قدرتها على الحسم بالقوى الذاتية والتي كشفت عن عيوب بنيوية كبرى عند تحولها للاسلمة والجهادية, وكذلك لأنها فشلت في توحيد السوريين في صف الثورة وضد النظام. فراحت المكونات “الأقلية” لغير صالح الثورة، رغم ان معظم السوريين كانوا متضررين وضد هذه الطغمة الحاكمة أساساً, لكن الثورة بعد الاسلمة والعسكرة بالميدان, وقصور المعارضة السياسية الرسمية، فشلت في توحيد السوريين بتوقهم إلى الحرية والكرامة وفي اسقاط نظام الاستبداد.
وعلى أعتاب جنيف3 وفي جولة حول ملحّات المرحلة نرى بضرورة:
– الالتقاء مع التحالف الدولي لمواجهة ارهاب داعش, وتفويت فرصة اعادة تأهيل النظام كشريك في هذا المجال, فضلا عن قطف ثمار مبكر لمعركة لابد قادمة مع داعش.
– استثمار فرصة التوافق الدولي الحالية لفرض حل سياسي على بشار الاسد يتحقق به الانتقال السياسي حتى ولو لم يتحقق به الان كامل مشتهى الثوار.
– اعادة صياغة العلاقة مع “الاتحاد الروسي”, باعتبارها دولة ذات مصالح قابلة للمناقشة, من منطق السيادة الوطنية وعدم الخضوع للإبتزاز العسكري او السياسي الروسي, بغية حلحلة وفك الارتباط الروسي مع بشار الاسد, فالروسي بالتأكيد ليس كالايراني في عمامته التي أججت الصراع المذهبي الديني والقومي في المنطقة وحرفت مسار الثورة الى الطائفية.
– الحد من تأثير الخارجي (التركي/القطري) لانه موضع تأزيم للحالة السورية ومثار شك دائم من كل الاقليات السورية, وبالطبع التعامل بواقعية نفعية لتقاطع مصالح الثورة مع مصالح الأصدقاء.
– في حمأة مواجهة الارهاب وارهاب الدولة, السعي لكسب الشباب السوري الذي جرفته الاحداث الى التطرف, وفسح المجال للكتائب الاسلاموية لتعديل خطابها الديني المتطرف والتكفيري, بخلق بروتوكولات تعاون مع القابل منها للتخلي عن ذلك الفكر العدمي, وتشجيع كتائب الجيش الحر على استيعابهم وفق الاجندة الوطنية السورية.
– ﻻ يكفي اﻻئتلاف اليوم ادعاءه أنه يحوي تمثيلاً كردياً في صفوفه، لان العديد من القوى الكردية الفاعلة الاخرى لا زالت خارجه، ولن ينفع الإنكار بالتخفيف من أهمية تلك القوى أوتصيد أخطاءها أو محاولة اﻻلتفاف عليها عبر تمثيلات سياسيّة وهميّة, والفرصة ممكنة لكسب تلك القوى اليوم بعيداً عن المؤثرات الاقليمية والدولية, لا بل يجب العمل الجدي لضمها الى هيئة التفاوض وفق شروط الثورة, وبالتالي اعادة رسم خريطة السيطرة العسكرية في المناطق الشمالية لصالح الثورة.
اليوم وفي ذكرى الجلاء العظيمة نؤكد أن الرهان الاساسي يبقى دوماً على صمود شعبنا وابداعاته التي تفصح كل يوم عن جديد كفاحه, وخير دليل ما شهدته معظم المناطق المحررة وكذلك السويداء في 17 نيسان وسلسلة مظاهرات حملة “حطمتونا” الواعدة, على أمل أن تشرق شمس الحرية ويتحقق الجلاء الحقيقي من جديد, وهذا يقتضي منّا المثابرة على استثمار الهدنة ولو عرجت والحرص على استمرارها لفك الحصارات والافراج عن المعتقلين وفتح فرص نضالية جديدة امام شعبنا الثائر, تعيد اعلاء صوت الكلمة الحرة فوق صوت أزيز الرصاص.
ختاماً من نافل القول أن التكتيك المرحلي والراهن لن يستوي الا بمقدار خدمته الاستراتيجيا والثورة, باعتبارها محاولة لتغيير مفهوم العمل السياسي جملةً وتفصيلاً, وليس لاسقاط النظام السياسي فحسب, وعليه فالثورة مستمرة وذاهبة دون تردد الى تغيير بنية وجوهر العمل السياسي كي يصبح للمواطن العادي القدرة على الحرية والفعل والتأثير ورسم السياسات في الوطن باستدامة واضطراد.