ماجد ع محمد
“لاحظت كم هو رجل صادق وشجاع
فما قال شيئاً إلا و فعلــه مهما كان الثمن وبدون أي خوف أو تردد”
بول بريمر
كما أن الحقيقة تكمن بين المظهر والجوهر وفق ما يقوله أحد العلماء، كذلك تكون سيرة الإنسان الناصع كامنة في تواصل غابره بالحاضر، مع أن ذلك قد يكون مفخرةً لدى بعضهم، إلا أن هذا التميز قد يفجر الأحقاد لدى كل من يفتقر لماضٍ بهيٍّ أو آنٍ ملفتٍ للنظر، وفيما يخص محاصرة البارزاني واختلاق المشاكل لحكومته، فهذا متوقعٌ من قبل أي طرفٍ مناهض مسبقاً لنهجه، وبخصوص المحاولات الدؤوبة لمن يود مزاحمته أو التشويش عليه، فلسنا بوارد ذكر تاريخ عائلته ههنا، ولا سرد سيرة الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولكننا سنذكِّر الناسين أو المتناسين من الملةِ بثلاث شذرات عن تاريخ آل البارزاني الذي يتم اتهامه من قبل أنفار المعارضة بالتبعية لتركيا،
وذلك كما ورد في الأرشيف العثماني، منها الوثيقة الصادرة سنة 1897 حول نشاطات الشيخ محمد البارزاني وهو والد الملا مصطفى البارزاني أي جد رئيس الاقليم، وكذلك الكتاب المستعجل الصادر من الباب العالي العثماني إلى والي مدينة – وان – حول نشاطات الشيخ عبد السلام البارزاني وقيامه بتسليح الناس وإثارة القلاقل في الدولة العثمانية، والوثيقة الأخيرة تعود لعام 1914 وذلك قبل اعتقاله، هذا بالنسبة لنضال البارزانيين أثناء الدولة العثمانية أي أوان حكم خاقاناتها الذين يُعتبرون أجداد زعماء الدولة التركية الحديثة.
أما عن نضال البارزانيين ومعاناتهم في زمن العفالقة فمن باب التذكير فقط سنورد ما قاله الكاتب العراقي كنعان مكية في كتابه (القسوة والصمت) حيث جاء فيه “ما قام به جيش البعث العراقي في مخيم غشتابا بجنوب اربيل عام 1982 وطوال عشر سنوات، كان هدفه الأساسي هو النيل من الشرف الكردي القومي ألا وهو اسم البارزاني”، ومن خلال الشذرتين أعلاه يبدو لنا جلياً بأن لا خاقانات الدولة العثمانية ولا صدام التكريتي استطاعوا زحزحة العائلة عما تؤمن به وتعمل عليه، مع أن أكثر ما كان يُشغل قادة حزب البعث، هو النيل من البارزانيين كرموز للحركة التحررية الكردية قبل التفكير بإنهاء الحركة الكردية ككل، باعتبار أن تلك العائلة المكافحة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، ومتى ما استطاعوا اقتلاعها أنهوا بذلك الطموح القومي برمته، والمؤلم حقاً هو أن أغلب الحكومات المتعاقبة والغزاة كانوا يودون اقتلاع نسل تلك الشجرة المكافحة من تربة كردستان، إلا أنهم فشلوا فشلاً ذريعاً وبقيت بارزان شامخة، ورغم كل محاولاتهم لم يقدروا على إطفاء جذوة النضال القومي لديهم، إلا أنه وكما تقول الحكمة ” أن ما يؤلم الشجرة حقآ ليست ضربة الفأس؛ إنمآ لأن يد الفأس من خشب الشجرة” حيث أن كل الطغاة لم يقدروا على النيل من تلك الشجرة إلا أن ثمة أفرع من الكرد يطيب لها أن تكون الأداة لتهوي بها على جذع تلك الشجرة، وذلك بدافع الحسد والحقد الشخصي والمزاحمة على المكانة لا أكثر، علماً أن البارزاني لو غادر المصيف ومكث في مغارة في أعلى الجبل لبقيَ مقامه أرفع من عشرات الساسة القاطنين في القصور، حيث أن المنصب السياسي من السهل أن يحصل المناوئ عليه ولكن من أين له الارتقاء إلى مستوى ما يمثله البارزاني، وهو ما أكده عبدالوهاب الطالباني بقوله: إن البارزاني لو ترك السلطة وذهب ليسكن وحده تحت خيمة في بارزان فسوف لن تتحرك اَية قوة على ارض كوردستان، ولن تخطو اَي جهة سياسية مهما كانت أية خطوة دون العودة إليه، ولن يكون لأي قرار دولي أو إقليمي بشأن كوردستان معناه دون مشورته ورضاه، فشخصيته القومية وتاريخه الشخصي وتاريخ اسرته المشرف، وظروف كوردستان والأهمية القصوى لهذه الانعطافة التاريخية الخاصة جدا والمتعلقة بمصير كردستان، والعديد من الأسباب الأخرى تفرض هذه الحالة ليبقى البارزاني زعيم كوردستان بلا منازع”.
وبعيداً عن التاريخ وصفحات الكتب فالحاضر ماثل للعيان، إذ أن الفريق الذي يود إزاحة البارزاني ومزاحمة موقعه ومكانته عليه قبل كل شيء أن يرتقي الى مصاف مواقفه، ويبني له مجداً سياسياً يرفع الرأس قبل التفكير بمناطحته، حينها ربما سيكون له أو لهم حق القيام بتلك الحركات التي تشبه تمرد المراهقين على سلطة الأب في المنزل، لأن المنطق يقول بأن من يريد أن يغدو رمزاً ينبغي بادئ ذي بدء أن لا يتصرف كالخدم والحشم مع ساسة بغداد وطهران وتركيا ودمشق، حيث تغيب أناهم القومية أمام الآخر حتى تخوم التلاشي، وتغدو مواقفهم وكأنهم مجرد عسكرٍ لدى الآخر، وليسوا ساسة وأصحاب قضية، كما أننا في هذا المقام سنورد المثل العفريني القائل:(من يفتعل به يبدو جميلاً بنظره) ولعل مضمون المثل كان حاضراً لدى من استقبل نوري المالكي والنائبة الحاقدة حنان الفتلاوي بالأحضان، فالقول يناسب الموقف وأصحابه، بإعتبار أن مَن استُقبل في السليمانية هو الذي قطع رواتب الموظفين وبيشمركة كوردستان في أصعب الظروف وإبان هجمة الدواعش على اقليم كردستان.
بينما بالمقابل وفي الأمس القريب فقد ألغى البارزاني زيارته المقررة إلى طهران لسببين يشم منهما الإباء الذي يفتقر إليه الآخرون، أولهما كان بسبب رفض الطرف الإيراني رفع علم كردستان بدلاً عن العلم العراقي خلال اللقاءات الرسمية وإصرار الطرف الكردي لاعتماد العلم الكردستاني فقط، والسبب الثاني هو رفض الجانب الإيراني إدراج لقاء البارزاني مع قائد الثورة علي الخامنئي على جدول أعمال الزيارة، هكذا إذن على من يود أن يحل محل البارزاني أن يتصرف ويكون أهلا لذلك الموقف، حتى يكون زعيماً ورئيساً على كردستان، لأن كردستان التي رويت ترابها بدماء آلاف الشهداء تحتاج رجالاً شامخين وليس مجرد سانشوات تتبع دونكيوشوتات بغداد وطهران.
وها هو رئيس الإقليم يدعو الأحزاب السياسية للاجتماع ويحضهم على انتخابٍ جديدٍ للبرلمان لكي يعود لمزاولة أعماله من جديد، ويدعو الأحزاب في الاقليم لأن تتفق على تشكيل حكومة جديدة، وأن تقوم بتعيين شخص لرئاسة الاقليم بدلاً عن رئيس الاقليم لحين بدء موعد الإنتخابات القادمة، ولكن أنى لمن يُحرض الشارع، ويستقبل المالكي وحنان الفتلاوي على الراحات، وأنى للمتعثرين ببعضهم من هوس الركض على أبواب الساسة في طهران وبغداد أن يلبوا الدعوة بسهولة، طالما أنهم قبل الغير يعرفون مدى امتدادات وعلاقات البارزاني اقليمياً ودولياً وبالأخص مع عواصم القرار، ومع ذلك يصرون بين الفينة والأخرى على مناطحته وكل يومٍ بوسيلة جديدة، فتصوروا إذن لو كان البارزاني هشاً، ضعيفاً أمام الكركوزات التابعة للدولة الاقليمية كإيران وسوريا وتركيا والعراق، فماذا كانوا فعلوا بالبارزاني وحزبه وبالاقليم ككل؟ ولنفترض بأنهم حزموا أمرهم وقرروا إزاحة الرجل فهل يا ترى سيقدر المجتمعون على إزاحته بالتوافق الحقيقي فيما بينهم إيجاد بديلٍ منهم ينوب عنهم بعيداً عن الحقد النسبي أو العائلي أو الأيديولوجي؟ أم سيكون البارزاني بتزهده ونصاعة أثره أيضاً مصدر القلق الدائم لهم، والسبب المباشر في عدم قدرتهم على اختيار أي منهم؟ باعتبار أن في أعماق أكثرهم يربض ذئب الانتهازية السياسية، الذئب المستعدُ للانقضاض على من حوله فور توليه السلطة العليا في الإقليم، إذاً كيف سيكون حال الإقليم وناسه إذا ما تبوأ أحد المتسلطين الخنوعين منصة الأوليمب في كردستان العراق؟
وختاماً نقول لا شك ليس فخراً لأية أمةٍ عندما تفتقر وقت الحاجة إلى عشرات القادة ممن يكونوا قادرين على إتمام مسيرة الرعيل الأول، وبدائل قادرة على قيادة باخرة الإقليم وسط الزوابع من دون أن يجعلوها ترتطم بجبال الجليد كما كان حال باخرة تايتانيك، ويكونوا فعلاً مؤهلين لاستكمال تشييد ما بناه الأوائل، والانتقال بالإقليم إلى غدٍ أفضل بعيداً عن عقلية التجريب والمقامرة بمصير الإقليم وناسه، وحتماً سيكون محط ترحيبٍ ذلك الذي يمتلك مؤهلات رئيس الاقليم السياسية والخلقية والإنسانية، ولكن ثمة حقيقة قد لا يقر بها كل مناوئ للرجل وحزبه، وهي أن البارزاني ليس وجوده فقط ما يُرهق ويُقلق كل من يحسده أو يتوق ليتبوأ موقعه، فبالنسبة لمن لم يكن أهلاً للمواقف المشرفة فيما سبق والآن، فقصة أن يصبح رمزاً وقائداً وشخصاً نظيف الصفحة مثل الذي ينوي احتلال مكانه لن تكون سهلة وحيث البارزاني حيٌ يرزق، لأن الرجل مادام محافظاً على سماته وقيمه فسيبقى مَثلاً، ومن الصعوبة بمكان أن يجاريه من بين المناوئين الحاليين على أقل تقدير بديل يتمتع مثله بالقيم النضالية والقدرة على التضحية، أو يوازيه في المواقف الحاسمة والإرث الشامخ الذي يشير إليه أينما حل الرجل وارتحل.