د. محمود عباس
بدراسة سريعة لتاريخ نشأة بعض الأحزاب السورية ومؤسسيها في بدايات القرن الماضي، والمتأثرين بأفكار الأحزاب القومية الأوروبية كالنازية والفاشية، تتبين خلفيات ضمور الثقافة الوطنية وصعود النزعة العروبية، والتي فككت عوامل تلاحم النسيج السوري، ممهدة انتشار المفاهيم العنصرية، ضمن الجغرافية المقتطعة استعماريا باسم الجمهورية السورية. وكذلك بدراسة تاريخ رؤساء الحكومات السورية المتتالية منذ دخول فرنسا وحتى الوحدة، بدءاً من صبحي بك بركات الخالدي عام 1925م وحتى شكري القوتلي عام 1958م، نراهم إما متبجحون بالاستقلالية السياسية غير منتمين إلى أحزاب عروبية المشرب أو منتسبون إلى أحزاب الكتل الوطنية، ويغرفون من الثقافة العروبية، بصبغة الوطنية أو العربية الإسلامية، والعديد منهم تبجحوا بنهجهم العروبي.
وبالعودة إلى العديد من خطبهم، وخطب نواب البرلمان السوري في فترات صعود تلك الأحزاب، نجد الانحياز نحو القومية العربية، ويتجلى في إقصائهم للقوميات الأخرى المتشكلة منها سوريا المنتدبة. فعلى أعتاب تلك الثقافة سادت النزعة العروبية، وليست العربية، وتضخمت أثناء حكم جمال عبد الناصر، وقبله حزبي الشعب والبعث، اللاغين للقوميات الأخرى. والخطأ ليس في الانتماء القومي، بل في نبذ الآخر لإبراز الذات، ونكران القوميات الأخرى مؤشر رئيس في سيادة الطغيان على الغير. هذه الذهنية وليست محبة الذات القومية، هي التي أدت إلى ردود الفعل عند القوميات والمذاهب الأخرى في سوريا، ودفعتها لمواجهة مخططاتهم التدميرية.
الشريحة التي أسست تلك الأحزاب رسخت البنية الفاسدة بين المجتمع السوري العربي، وكانوا وراء إصدار الدساتير الناكرة لشركاء الوطن لصهرهم قسرا في العروبة. ووطدت الهيمنة على قدر المجتمع السوري بزرع المربعات الأمنية في البلد مطلقة اليدين، وأكثر تجلٍ لها كانت المنطقة الكردية.
ومن بين تلك الحزب:
1-حزب (الاستقلال العربي) تأسس عام 1919م في دمشق، من قبل مجموعة سمت نفسها بعصبة الاستقلاليين، منهم رشيد طليع؛ وأحمد مريود؛ ونبيه العظمة وغيرهم.
2-الحزب (الوطني السوري) المنشق عن حزب الكتلة الوطنية(*)، على خلفية إطغاء النهج القومي العربي على الحيز الوطني، في نهايات الانتداب، شعاراته لم تتوافق مع توجهاته الفعلية. خطب نوابه في البرلمان السوري يكشف مدى هيمنة الفكر العروبي على الحزب.
3-حزب الإخوان المسلمون، تأسس في سوريا عام 1940م، مؤسسوها كانوا أبعد الناس عن المفهوم الوطني، استغلوا الدين لمصالح القومية العربية، متخذين السنة والإسلام السياسي أيديولوجية لهم. وجدوا في المفاهيم الوطنية، بدعة غربية فيها الكثير من الكفر، وحسبوها مخالفة للدين الإسلامي، وتحت غطاء لغة القرآن، ركزوا على مفاهيم سيادة العرب والموالي من الشعوب الأخرى. برز بينهم عنصريون عروبيون تحت عباءة الدين، هدفهم كانت السلطة المركزية المطلقة بيد السنة من العرب.
4-حزب (الشعب) أسسه ناظم القدسي ورشدي كيخيا مع شخصيات سياسية حلبية في عام 1948م، ولم يختلف كثيرا عن نهج حزب البعث؛ من حيث التعصب للقومية العربية، وإقصاء الآخر، كان لهم دور مهم في تشكيل عدة حكومات بعد الانتداب، وحقق الأغلبية المطلقة في البرلمان السوري عام 1949م، رغم الانقلابات كانوا يقودون سوريا حتى انقلاب البعث عام 1963م، باستثناء فترة الوحدة.
5-حزب (البعث) و(الاتحاد الاشتراكي) والناتج من اتحادهما، حزب (البعث العربي الاشتراكي) والذي أعلن عنه بشكل رسمي عام 1947م، وهو معروف بنهجه العنصري العروبي، تاريخه وشخصياته معروفة للقراء.
6-الساسة الكرد، بالمقابل كانوا يشاركون العرب الوطنيين ضمن الأحزاب السورية الوطنية، وعملوا داخل البرلمان السوري والحكومات السورية المتعاقبة تحت النزعة الوطنية، وما عرضوه في قاعات البرلمان حول القضايا المتعلقة بالشعب الكردي من خلال البرلمان كانت ضمن إطار الوطنية وبرؤية سوريا للجميع. منهم البرلمانيين الكرد عن منطقة الجزيرة خليل إبراهيم باشا الملي، وطلعت عبد القادر، ودهام نايف مصطفى باشا الميراني، فازوا بالانتخابات كممثلين للأحزاب الوطنية السورية، وممثلين عن منطقة عفرين، أمثال نوري عارف ومحمد منان…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
7/2/2016م
(*) تشكلت الكتلة الوطنية في عام 1925م ومن مؤسسيها عبد الرحمن الشهبندر؛ سعدالله الجابري؛ ونجيب البرازي؛ وهاشم الأتاسي؛ وغيرهم، والأخير ترأس الحزب إلى أن أنتخب رئيسا لسوريا عام 1936م. وكان الشهبندر من الذين اتجهوا نحو التعصب القومي وانحرفوا عن الحيز الوطني وأدى إلى انشقاق الحزب، ويقال إن الوطنيين كانوا وراء اغتياله، والانشقاق حصل في نهاية الثلاثينات قادها مع شريحة متميزة بالنزعة القومية العربية.