لن يحتاج المرء إلى أي جهد ،حتى يدرك حجم الإنعطافة التركية من بعض القضايا التي تضغط على أعصابها، بعد إسقاط تركيا مقاتلة سوخوي روسية ، كانت قد اخترقت المجال الجوي التركي ، وادت في حينها الى ازمة حقيقية، كادت ان تصل الى حدود المواجهة العسكرية الشاملة بين البلدين، مما أدى إلى انكماش السياسة التركية وتحجيم دورها في القضايا الاقليمية ، وخاصة في الملف السوري ومفاعيله المستمرة ، انتهت اخيراً باعتذار الرئيس التركي لفك العزلة المضروبة عليه، تلبية لشروط الكرملين ،علها تجد ما يهدّئ من هواجس أنقرة بحصولها على “ضمانات” روسية لمنع كرد سورية من إقامة “إقليم روجافا – شمال سوريا” بعد إن فشلت في انتزاع ذلك من اميركا ، رغم عمق العلاقة التاريخية بينهما .
تزامنت الانحناءة التركية مع اعادة تطبيع العلاقات الاسرائيلية التركية، بعد الاعتداء الاسرائيلي على السفينة التركية “مرمرة” في 31 ايار 2010 واستشهاد تسعة اتراك كانوا على متنها ،ادت الى قطع العلاقات الدبلوماسية المستمرة بينهما منذ عام 1949، وقد تكونت قناعة راسخة لدى القادة الاتراك باستحالة قيام أي دور تركي في سوريا ذي مردود فعلي ، ان لم تجتهد في نزع اسباب التوتر والانخراط الفعلي في التحالف الدولي ضد الارهاب، لذلك بادرت الى تليين موقفها ،واتباع سياسة براغماتية جديدة بطي صفحة الاحلام “السلطانية” التي تاهت في سياسة “صفر المشاكل”، التي غاصت في اوحالها ، ومواجهة “التمرد” الكردي الداخلي ، وقطع الطريق على مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي بقيام “كيان” كردي بمحاذاة حدودها شمال سوريا ، بعد ان قدمت واشطن الدعم العسكري واللوجستي لقوات سوريا الديمقراطية ،دون أي اكتراث لهواجس انقرة ومخاوفها ،مما دفعها الى الاقدام على هذه الانحناءة بإعادة العلاقات التركية الروسية الإسرائيلية لمواجهة التوسع الايراني والدور الطائفي لميليشياتها الشيعية في المنطقة وفي سوريا تحديدا، والذي بات يشكل تهديدا وجودياً لأغلب دول المنطقة ، ورد الاعتبار للدور التركي في سوريا بعد تحجيمه ومحاصرته من قبل روسيا لاحتكارها للملف السوري بتفويض دولي ،لذلك جرى لقاء سريع ، بعد القطيعة، بين وزيري الخارجية الروسي والتركي، أعلن فيه عن استعدادهما للتعاون في سورية، وبعدم اختلافهما حول تعريف الإرهاب، والبدء بتطبيع العلاقات الثنائية ، وجاء ترحيب الكرملين بفتح مطار انجر ليك إمام المقاتلات الروسية، ليعزز هذا التعاون ، ،وقد بدأت نتائج هذا الانخراط تتبلور فيما شاهدناه من توتر وانزياح في العلاقة الموضوعية مع داعش، وفي التفجيرات الإرهابية بمطار اتاتورك الدولي الذي نتج عنه 43قتيلا و239 جريحا وشكل انقلابا حادا ومواجهة مفتوحة على كل الصعد، وثمة تسارع ملحوظ في وتيرة الاحداث وسنشهد في الايام القادمة المزيد من المواقف والسياسات التي ستؤدي الى تغيير حقيقي في جوهر الحرب الدائرة الان على الارض السورية ، لكن نتائج الاستدارة التركية لن تظهر بين ليلة وضحاها، وستحدّدها المصالحة مع الروس والإسرائيليين، المتوافقين على بقاء الأسد ونظامه.
ان الحاجة الى الوقت ،والى قراءة عقلانية ومتأنية، لإعادة ترتيب الاولويات، هي ضرورة من قبل المعارضة السورية ، لجهة الاستفادة من تعزيز الدور التركي في اطار العلاقة القائمة بعد تطبيع العلاقات مع الإسرائيليين والروس، وبما يساهم في قطع الطريق على النظام وحلفائه الإيرانيين، والتخلي عن داعش والنصرة وكل الفصائل الاسلاموية الأخرى ،كما عليها ان تقرأ جيدا ما حصل في اصفهان في يوم القدس العالمي، ووضع الشعارات التي رفعت في سياقاتها الصحيحة، والاستفادة من المزاج الايراني العام الذي صار يطالب بترك سوريا والتفكير بالداخل ” اتركوا سوريا وفكروا بنا “، وهذا يحتّم على المعارضة تحديد الارضية التي تقف عليها ،وفهم التحوّلات الدراماتيكية التي تجري ،بمعنى ضرورة الانتماء إلى أهداف الثورة ومصالح السوريين التي توزعت بين دول وعواصم عديدة لا يمكن استعادتها، الا بوحدة السوريين السياسية والعسكرية لوقف نزيف الدم السوري، واسقاط سلطة الاسد، فالسوريون لن يقبلوا ببقاء بشار الاسد مهما دفعوا من اثمان وكلف، وفي هذا الاطار يجب على المعارضة السورية الانفتاح على كل المكونات السورية والتعاون معها باعتبار هذه المكونات جزء من النسيج الوطني السوري، والسعي الدائم الى خلق توازن بين موقعها كقوة وطنية سورية وبين حقوق هذه المكونات ، بعيدا عن تأثير ومصالح بعض الدول الاقليمية التي تحتاجها هذه المعارضة .
تيار مواطنة 11/7/2016