د. محمود عباس
في حضرة القيصر، لا شك أن أردوغان أدرج القضية الكردية والكردستانية، ضمن سوريا قبل تركيا، كأحد المحاور المهمة، ولا يستبعد بأنه عرضها مع الكثير من السخاء الذي سيتكرم به لمضيفه، مقابل شروطه لحلها على مقاسه. كما ولا يستغرب أن يكون هناك قبولا بوتينياً ما في هذا المجال، خاصة وأن التحالف الكردي الأمريكي يتصاعد في الحيز السوري، حتى ولو كانت تندرج ضمن محاربة المنظمة الإرهابية داعش. والمساندة الأمريكية هذه بدأت تقلق سلطة بشار الأسد مثلما تزعج المعارضة السورية (الافتراضية)، والتي من المحتمل أن يتفقا بشكل ما وعن طريق طرف ثالث أكثر عداوة منهم للكرد لمواجهة الكرد، تحت حجة محاربة قوات الحماية الشعبية وال ب ي د.
فالمعارضة، المدعومة أردوغانياً، ستتحجج بأن الكرد يساندون قوات بشار الأسد، وبشار الأسد المدعوم بوتينياً، يتحجج بأن الكرد يتحالفون مع الأمريكيين، والتقارب بين مصالح أردوغان وبوتين، حول القضية السورية، قد يضيق الهوة ما بين الطرفين العروبيين المتحاربين على مذهبية السلطة. وتفرد طرف كردي دون آخر في القرارات والسيطرة، والخلافات المتصاعدة، وتحيز الآخر للجبهة المعادية، تزيد من قوة القوى المعادية ضدهم، وعلينا أن ندرك أن خسارة أية جهة من الحركة الكردية خسارة للطرف الأخر.
تم التحاور بين وفدي روسيا وتركيا على هذه القضية قبل القمة، ونعني قضية الكرد في شمال كردستان وجنوب غربه، قضيتي الـ ب ك ك والـ ب ي د وعمليا في واقع الفيدرالية المزمعة إدراجها إلى الواقع العملي بعد إيصال منطقتي جرابلس بعفرين، ومن المتوقع وتحت المتطلبات الأمريكية أن تدرج ضمنها الرقة، ومساحات جغرافية أوسع من مجرد منطقة ديمغرافية الكرد، وتسميتها بفيدرالية شمال سوريا، ولا يستبعد بأنها من ضمن الاستراتيجية المتفقة عليها روسيا وأمريكا، والظاهرة من خلال تصريحات مسؤوليهم الجانبيين، حول تكوين سوريا القادمة، تسندها الكلام المبتذل المدموج بالحماقة السياسية والثقافية والاجتماعية، التي يطلقها شخصيات من المعارضة السورية وممثلي الائتلاف السوري كتصريحات حول الكرد وتاريخهم ومطالبهم ضمن سوريا، وهو تهجم تحرضهم عليها القوى الإقليمية. ورغم أن الوقع الروسي والرجحان لكفة قوات الحماية الشعبية وسوريا الديمقراطية لا يستهين به وبهيمنته وفرض شروطه، لكن انزياح تركيا إلى جانبها قد يكون لها وقع ما، ومن ضمنها تصعيد عداء المعارضة الافتراضية والسلطة للقضية الكردية في سوريا، فينتقل بوتين من الدعم إلى السكوت.
يطمح أردوغان من خلال عقوده الاقتصادية المتعددة، ولربما تخليه عن الناتو، أو تخلي الناتو عنه، وتمتين أواصر التلاحم مع دول بحر قزوين الإسلامية، وتنازله عن ملفات عديدة في الشرق الأوسط، ومن ضمنها دعم المعارضة الراديكالية السورية، وبتدرج، لتتخلى روسيا من دعمها السياسي والمعنوي لقوات الحماية الشعبية ولقوات سوريا الديمقراطية، ولا يستبعد أن تعرض تركيا على طاولة المباحثات مع بوتين اقتراحها الماضي ثانية، بإقامة منطقة حظر دولي في المنطقة الكردية ضمن سوريا، خاصة بعد سيطرة سلطة بشار الأسد وبمساعدة روسيا على قسم واسع من حلب ومحيطها، حتى لو أضطر أردوغان مقابلها التنازل عن معظم المعارضة السورية، التنازل الذي تم في الواقع العملي، عندما بدأت وقبل الاجتماع بيومين مرور القاذفات الروسية في سماء تركيا لضرب حلب والمعارضة السورية(الافتراضية) المسلحة، ولذلك كان تصريحه حول هذه النقطة قبل عقد القمة بيوم واحد مثيرا، وكما نعلم فإن أي حديث عن وحدة سوريا أو تجزئتها، يقصد بها الكرد قبل الطائفة العلوية، يتناسى هو والمعارضة السورية السنية، أن سوريا مقسمة من قبل المنظمات التكفيرية الراديكالية السنية وبمساعدة تركيا والدول الإسلامية، ومنذ سنوات دون أن يذكرها أي طرف، أو يعيروا قضية تجزئة سوريا والعراق بمقاييس المنظمات الإسلامية السنية العروبية، فتصريح أردوغان بأنه وروسيا سيخرجان بحلول للقضية السورية وبالصيغة التالية (وذلك من دون انتهاك وحدة الأراضي السورية التي تربطنا بها 950 كلم من الحدود المشتركة) تبين مدى قلقه من الفيدرالية الكردستانية المزمعة إقامتها، حتى ولو كانت تحت مسميات غير كردية.
يظل غير واضحا ما ستقدم عليه بوتين في هذا المحور، هل سيتخلى عن الكرد كما تخلى عنهم جده السابق ستالين لمصلحة روسيا، أم أنه سيكون أكثر تمسكا بالمبادئ، ونقول مبادئ، ونحن نعلم أنه في السياسة لا توجد مبادئ بل مصالح، ومصلحته تفضل تركيا على الكرد، خاصة وأن الكرد لا يزالون يعانون من التشتت والخلافات العميقة، إلى جانب أن الظروف حتى اللحظة غير مؤاتيه لـ ب ي د، ولا هي ملائمة لرفع سقف مطالبه مع الأمريكيين، كما وأن الحلف الأمريكي، في هذا الحيز لا تقدم السند للكرد على سوية ما ستقدمه روسيا لتركيا على خلفية مصالحها، فالخطر على مستقبل هولير والإدارات الذاتية أكبر من المتوقع.
أردوغان، بعد الانقلاب، واتهامه لأمريكا بشكل مباشر، والمؤدية إلى عقد القمة بينه وبين بوتين، والتنازلات التي سيقوم بها، والتغييرات التي أجراها في الإدارة، وضمن الحزب، وضرب المعارضة القريبة والبعيدة، يجر تركيا إلى مسار جديد، للحفاظ على مركزه وعلى قوة حزب العدالة والتنمية. ولا شك أنه وطني يبحث عن مستقبل جيد لتركيا القادمة كما يراها هو، لهذا يظهر للإعلام وللشعب التركي أن انقلابه على الماضي، ومما يقدم عليه من الخطوات العملية هي لتقوية مكانة تركيا دوليا، ورفاهية الشعب في الداخل، وتحريرهم من الهيمنة العسكرية. ولإنجاح استراتيجيته هذه لا بد من زعزعة قوة المعارضة، الكمالية في الجيش والمجتمع أيضا، حتى ولو كان لا يتعرض إلى النزعة الكمالية بعد، لكننا لا نستبعد بانه يحضر لها، ويحتاج لبعض الوقت، وإتمام الاستراتيجية كان لا بد من الابتعاد عن الحلف الأمريكي الداعم الرئيسي للعلمانية الاتاتوركية، والتوجه إلى سان بطرسبورغ، كما وسيستمر في وضع حلول للقضية الكردية على مقاسه، وبدون الـ ب ك ك والتي يدرجها مع قائمة كولن وخانة داعش، وعلى الأغلب سيعرض حلوله بدون أي طرف سياسي كردي، ليبقيها ضمن منطق حقوق المواطنة، وبعيدة عن مواد الدستور. سيكثف من حلوله لهذه القضايا، بعد أن يتخلص من آثار محاولة الانقلاب وتبعياتها داخليا وخارجيا، والتي أثرت بالتأكيد عليه، ليتمم انقلابه على الماضي التركي.
فكما ذكرنا، محاولات الابتعاد عن المحور الأمريكي الأوروبي، والتقرب من الروسي تندرج ضمن هذه الاستراتيجية، إن نجح فيها سيكون قد نقل بتركيا نقلة لن تقل عن نقلة أتاتورك لها، وإن فشل فستكون كسقوط الإمبراطورية العثمانية، قد تؤدي حتى إلى تفتيت تركيا، أو لربما نظام تركي فيدرالي، وهو النظام الذي لو طبقها سابقا أو في هذه الفترة لاستطاع بها الهيمنة على المنطقة، وفرض شروطه وإملاءات على الدول المجاورة ولربما على الكبرى، ولكن هذه الاحتمالية تنعدم على عتبات خلفيات نزعته القومية وإلغاء الأخر، والرهبة من الدول الإقليمية المعادية للكرد. مع ذلك فما ينجرف إليه أردوغان لا بد وأنه سيكون للكرد فيها حصة، وإلا فالصراع لن يخمد في المنطقة، وبمساندة إحدى قطبي الإمبراطوريتين، والمعادلة تستند على من سيستفيد من رجحان تركيا مستقبلاً في المنطقة، ومساندة القطب الأخر للكرد، وبالتالي المنطقة ستبقى ضمن لهيب الصراع الدائم، وحلها ضمن تركيا بيد أردوغان، مثلما في سوريا بيد روسيا وأمريكا.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
9/8/2016م