هل تركيا جاهزة لانقلاب سياسي؟

جان كورد

 

لا شك في أن حزب العدالة والتنمية في ظل رئيسه الشهير رجب
طيب أردوغان قد رفع تركيا اقتصاديا في العقد الأخير من الزمن درجات عديدة نحو
الأعلى، وذلك بدعم من قاعدته الشعبية الواسعة من مختلف مكونات البلاد في بداية
الأمر، إلا أن هذا الرئيس بالذات قد أدخل تركيا في عزلة سياسية خطيرة، منذ أن كشف
“الرئيس رجب” عن وجهه الحقيقي، بعد وصوله إلى منصب الرئاسة خلفا لرفيق دربه السيد
عبد الله غول. إذ لم يتوقف السيد أردوغان عند حد الوصول إلى أعلى المقامات في
الجمهورية التركية، بل طمح في أن يصبح “السلطان رجب” بكل معنى الكلمة، فلا أحد يحد
من صلاحياته ولا يتنازل عن المسؤوليات الكبرى لأحد من دونه،
 إلا أن نجاح 80 عضو برلمان كوردي من خلال قائمة حزب كوردي المنشأ وتركي المطامح،
بمعنى أنه حزب وطني لا يخرج من حدود المسموح به دستوريا، قد أصبح عرقلة كبيرة أمام
حلم الرئيس في أن يصبح سلطانا، فاشتد غضبه ودعا إلى انتخابات جديدة على أمل تحطيم
هذا الحاجز الصلد أمامه من خلال اتهامات خطيرة وممارسات شنيعة ضد الكورد وحزبهم،
وكان هدف أردوغان عزل الحزب عن حاضنه الشعبي، إلا أنه فشل في ذلك فشلا ذريعا، فشرع
في التنكيل السياسي بالكورد عامة واتهام حزب العمال الكوردستاني، صاحب مشروع الطرح
السلمي منذ عدة سنين، بأنه ليس إرهابيا فحسب، وانما أنجب أحزابا “إرهابية” تابعة له
في البلاد وفي الدول التي تقتسم كوردستان مع تركيا (إيران، العراق وسوريا)، ومنها
حزب السلام والديموقراطية الذي يترأسه السيد صلاح الدين دميرتاش وحزب الاتحاد
الديموقراطي في سوريا، الذي يترأسه السيد صالح مسلم. إلا أن العالم الذي شهد مقاومة
الكورد العنيفة لإرهاب ما يسمى ب”تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، لم يعر الاتهامات
الأردوغانية اهتماما يذكر لأن هذا العالم بأسره مدرك لحقيقة التاريخ الأسود
للطورانية التركية تجاه الشعب الكوردي، وعارف بحقيقة أن الكورد الصامدين في وجه
(داعش) المدعوم من قبل حزب أردوغان لا يمارسون الإرهاب في كفاحهم البطولي من أجل
الحرية، وحبطت بدخول روسيا على خط القتال إلى جانب نظام الأسد ضد معارضيه كل مخططات
أردوغان لإقامة “منطقة عازلة في شمال سوريا) للتدخل العسكري السافر في الشؤون
السورية عامة والكوردية خاصة، فلم يجد أردوغان أمامه مجالا للمراوغة السياسية فلجأ
إلى قصف المنطقة الكوردية في شمال سوريا وفي شمال العراق، ولكنه لم يتجرأ على ذلك
داخل الأراضي الإيرانية التي فيها أيضا حزب تابع لحزب السيد أوجلان. واتخذ أردوغان
ورئيس وزرائه السيد أحمد داوود أوغلو تفجير قنبلة في مدينة أنقره ذريعة لعدوانه
الواسع النطاق، إلا أنه يعلم تماما أن اتهام الكورد بذلك لن يجدي، لذلك قالها
ويقولها الآن بصراحة: “لن نسمح بأي كيان إرهابي على الحدود التركية – السورية”، فأي
كيان كوردي يعتبر في نظره إرهابيا كما يبدو، وهذا يعني أنه مستعد لفتح جبهة واسعة
على جيشه، تمتد شرقا من حدود إيران مع العراق إلى حدود لواء اسكندرون (هاتاي) غربا،
فهل الجيش التركي الذي فقد كثيرين من قادته الكبار بسبب التصفيات الإدارية لهم من
قبل أردوغان، بقادر على صد هجمات المقاتلين الكورد المتمرسين في حرب العصابات؟
بالتأكيد لا.
وحيث أن سياسة أردوغان منذ وصوله إلى السلطة اتسمت داخليا
بالاستمرار في الخروقات الكثيرة لحقوق الإنسان والأقليات، وخارجيا بالخصام مع كثير
من أطراف المجتمع الدولي، وارتدى فيها برقعا إسلاميا زائفا (جيشه المسمى بالمحمدي
لا يزال جزءا من حلف النيتو ونظامه السياسي مرسوم حسب الفكر الأتاتوركي المعادي
للإسلام)، فإنه فتح على نفسه عدة جبهات، مع إسرائيل بسبب تضامنه مع (حماس) ومع
روسيا بسبب موقفه في حرب صربيا – البوسنة والهرسك، وفي الشيشان، ومع إيران في
العراق وسوريا، ودعوته المستمرة لتحالف عربي– تركي واسع، مما دفع حلفاءه في النيتو
إلى التساؤل عما إذا كان الوقت قد حان لطرد تركيا من الحلف، ودفع الأوربيين لاتخاذ
موقف أشد معارضة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، وكان هذا الانضمام دائما طموحا
تركيا كبيرا وجادا. 
منذ اندلاع الثورة السورية، وأعداد هائلة من اللاجئين
السوريين تقيم في تركيا التي تأتيها المساعدات من المجتمع الدولي بسخاء (في آخر
الأمر 3 مليارات دولار)، إلا أن السيد أردوغان هدد علانية بإفساح المجال أمام
اللاجئين بالذهاب إلى دول أوروبا الغربية، إن لم تؤيده أوروبا في حربه على الكورد
وإن لم تمنحه مزيدا من الأموال، مما اعتبره الاتحاد الأوربي ابتزازا ماليا له، كما
أن “السلطان رجب” هدد الولايات المتحدة التي بدأت تعتبر حزب الاتحاد الديموقراطي
و”قوات سوريا الديموقراطية” حلفاء في محاربة (داعش) و(النصرة)، بأن قال صراحة بأن
بلاده ستغلق قاعدة انجيرلك أمام الطيران الأمريكي، مما جعل الأمريكان يتساءلون عن
طبيعة تحالفهم مع تركيا وعن إمكانية إيجاد موقع في شمال سوريا “روزافا كوردستان”
لقاعدة بديلة، وهم يتذكرون جيدا كيف منع الحليف التركي مرور قواتهم عبر أراضيه لفتح
جبهة شمالية على جيش صدام حسين فيما مضى من الزمن. 
هذا من جهة الغرب، أما من
جهة الشرق فإن روسيا التي تم اسقاط طائرة عسكرية لها من قبل سلاح الجو التركي قد
شعرت بالمهانة، وطالبت بأن تعتذر الحكومة التركية لتلك العملية التي أثارت موجة
حادة من الاستنكار لأن اسقاط طائرة روسية من قبل دولة في حلف النيتو ليس بالأمر
البسيط وإنما قد تكون له عواقب خطيرة، إلا أن حلف النيتو قد أكد لتركيا بأنه غير
مستعد للدخول في حرب مع الروس من أجل تصرف تركي غير حكيم. ومعلوم أن الرئيس الروسي
خطير ومعقد نفسيا وأنه لن يتوانى عن غزو تركيا إن تأكد بأن الحلف لن يرد عليه بشدة،
لذا، فإن الدبلوماسية الأمريكية والأوروبية هي التي أنقذت عنق نظام أردوغان من
انتقام روسي رهيب. وإن تدهور العلاقات بين تركيا الأردوغانية وإسرائيل ليس مجرد
زوبعة في فنجان، وإنما جعلت اللوبي الإسرائيلي في كل من الولايات المتحدة والاتحاد
الأوربي وروسيا يتحرك بشكل صارخ ضد سياسات أردوغان بهدف عزله تماما…
الجيش
التركي الذي تمكن أردوغان من قص جناحيه بطرد واعفاء عدد كبير من قادته لا يستطيع
وضع حد لمغامرات رئيس الجمهورية المتهور، حيث كان في الماضي يقوم بانقلابات عسكرية،
ومنها الدموية ضد أي سلطة سياسية تحاول الخروج على الأسس الطورانية التي وضعها
مصطفى كمال للجمهورية، ومن ثم فإن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لن يعترفا
بأي سلطة سياسية تنبثق عن انقلاب عسكري في تركيا العضو في حلف النيتو، في حين أنها
تقبل بذلك في دول أخرى مثل (نظام السيسي في مصر)، ولذلك بعد أن ازداد أردوغان تهورا
بمحاولته التدخل العسكري البري في سوريا وبإعلانه الحرب على الكورد وإدخاله تركيا
في عزلة سياسية قاتمة، فإن الجيش التركي الذي يدرك خطورة النتائج السلبية من هذه
السياسة مضطر لمحدودية إمكاناته الانقلابية العسكرية لأن يستعين بالشارع المدني
وأحزاب المعارضة اليائسة من أي مشاركة في الحكومة الآن، في محاولة واسعة النطاق
للقيام بانقلاب مدني سياسي عوضا عن استخدام الدبابات لاحتلال القصر الجمهوري في
أنقره. 
وبالفعل، فإن أردوغان قد أوصل تركيا إلى حافة الهاوية بأن جعل روسيا
التي كانت لها علاقات تجارية بما يزيد عن 15مليار دولار مع بلاده عدوا مباشرا
ومستعدا لغزوها، كما كان الوضع سيئا أثناء الحروب العثمانية – الروسية، ولم يتمكن
من تحقيق تقدم في علاقات تركيا مع إيران المنافسة القوية باستمرار، وفشل في أن يخطو
أي خطوة جادة على طريق الحل السلمي مع حزب العمال الكوردستاني الذي انتظر هكذا حل
منذ سنوات عديدة، ودمر العلاقات التاريخية الوشيجة بين بلاده وإسرائيل، ووقف ضد
النظام السوري بعد أن كان يعانق الأسد بحرارة كأخ له، وبعد أن كان يزعم رئيس
الوزراء أحمد داوود أوغلو بأن تركيا تعمل على تصفير المشاكل مع كل جيرانها… 
وأخيرا، فإن السير بعكس الاتجاه للسياسة الأمريكية – الأوربية – الإسرائيلية في
المنطقة وتفاقم المعارضة في الشارع التركي لسياسات أردوغان ووصول البلاد إلى وضع لا
يحتمل بسبب تزايد أعداد اللاجئين السوريين وتكرار الأحداث الدموية في المدن
الكوردية والانفجارات الإرهابية في المدن التركية، قد جعل الجيش التركي يفكر بتغيير
لابد منه في التركيبة الحاكمة لإعادة وضع تركيا على السكة الكلاسيكية التي كانت
تسير عليها منذ قيام الجمهورية في عام 1923. 
ولكن، كيف يمكن للجيش أن يتصرف
ويتحرك لتحقيق ما يمكن تسميته ب”الانقلاب السياسي” ولا تزال أغلبية السكان تدلي
بأصواتها الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، وبعد أن تمكن أردوغان من لجم الإعلام
الوطني، وعدل أو ألغى الكثير من القوانين وطرد معارضيه من تركيبة الحكم في مختلف
المجالات؟ 
بالتأكيد، إن قادة الجيش المناوئين سيدعمون كل النشاطات المعارضة
لنظام “السلطان رجب”، وسيمارسون ضغوطا هائلة عليه من خلال الحلفاء في حلف النيتو
وعبر الإعلام الذي لاتزال بعض أطرافه الجريحة تنبض بالحياة، وقد يلجؤون إلى شخصيات
معارضة قوية لأردوغان مثل الشيخ فتح الله غولن رغم تعرضه تنظيماته الواسعة، السرية
والعلنية، لضربات متتالية من “السلطان رجب”، كما قد يفكر الجيش بتحريك سائر
التنظيمات التركية والكوردية التي تأتمر بأوامر “الدولة السرية” الملتزمة بتعاونها
التام مع الجيش دائما، وينتظر حدثا دراماتيكيا عظيما كانفجارات متلاحقة في العاصمة
واستانبول أو تدخل عسكري تركي في سوريا يتلقى فيه “نظام السلطان رجب” ضربة موجعة من
قبل الروس وايران… 
على كل حال، لا يمكن لأردوغان الاستمرار في ألعابه التي
ترهق الميزانية الوطنية وتدمر جسور العلاقات مع سائر الجيران وتثير المشاكل العظيمة
في داخل البلاد وتبعد تركيا عن مسارها الذي خطه (أتاتورك) وظل الجيش يحميه ويصونه
عقودا من الزمن… والصقور تنتظر الوقت المناسب لتحلق فوق قصر الرئاسة الذي يقبع
فيه “السلطان رجب” معزولا عن المجتمع الدولي.
وفي هذا الصراع الناشب بين قصر
السلطان رجب والدولة السرية العاملة ضمن الجيش والتنظيمات الأمنية المختلفة
والغلاديو، يقف الكورد حائرين ومترددين، فمع من عليهم الوقوف؟ مع الجيش والميت
التركي والجندرمة التي لا تتوانى عن ذبحهم وتعريضهم لمجازر تلو مجازر، كما حدث عبر
التاريخ التركي الحديث بأكمله، أم مع “السلطان رجب” الذي يعتبر أي طموح قومي لهم،
في داخل تركيا وفي خارجها، عملا إرهابيا ويفتح عليهم النار سياسيا وبقصف الطائرات
وفوهات المدافع…؟

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…