معقول اللامعقول في تدمير حلب حسب الأصول

 ابراهيم محمود
عبارة ” غير معقول ” تُقال، انطلاقاً من عُرف قائم، أو وفق ثقافة شخصية ما، أو تربية سلطوية معينة، كما لو أن الذي يبزُّ المعقول يعني أنه ما كان عليه أن يحصل، غير أن التجارب التاريخية تعلِمنا أن ثمة فظائع تمارَس في جماعة، شعب، منطقة، من قبل، جهة، طرف، سلطة، تُبقي اللامعقول في أقصى الخلف، والجاري منذ أيام في حلب ” النكباء ” يندرج في هذا الإطار، فثمة سلطة شمولية تطبّق مقولة ” علي وعلى أعدائي “، كأني بها تعرّف بنفسها مدافعة عن حق الدولة في حماية أمنها، وإبقاء هيبتها المزعومة، سوى أنه إذا كانت السلطة ذاتها تفعّل هذا العنف الكارثي، حينها لا حدود للامعقول تستثنى هنا.
لنسمّها حروباً ذات أنساب طائفية، مذهبية، تكتلية.. تلك أسماء ومسمّيات، فهي ذاتها كسابقتها لا تعود قابلة لأن تنسكن ضمن عبارات وأوصاف معينة، وما تشهده حلب منذ أيام بصورة مكثّفة، قد يمثّل الخطوة المضافة في تطبيق العنف التدميري الذي يجمع بين الأرض والسماء، إنما حين تكون مدينة من وزن حلب: بتاريخها ومكوناتها الاثنية، وثراء أبعادها الاجتماعية والثقافية، وأطياف عنفها المدَّخرة، مضحَّى بها، فإن أكثر من ذاكرة قريبة تشتعل، وتظهِر حقيقة الدائر:
أن تكون حلب الضحيةَ الكبرى والأكثر إشهاراً من بين المدن السورية، وتأكيداً على أن سلطة قائمة باتت ملغَّمة، من الداخل، تنتقي أكثر الضحايا لفتَ نظر ٍ، وبثَّ رسالة إلى كل من يهمه الأمر على أن سلطة تريد البقاء، لا تتوانى في إدراج أي منطقة في نطاق التدمير والتخريب، وللتأكيد على أن حربها المروّعة هذه هي حرب وجود لاسمها ومن يمثّلها.
لذلك، لا مجال للحديث عن الأصول، فثمة أصول تبرز بغتة، وهي كامنة، وفي سردية السلطة الشمولية هنا وهناك، توجد خيارات متدرجة لإبراز بطشها، أو ما يثبت قوتها ” التأديبية “، ليكون كل الذي شهدته حلب حتى الآن مجموعة حلقات مدروسة بصيغ شتى بغية الحفاظ على الدولة التي تعني السلطة هذه.
إن معقول اللامعقول في تدمير حلب، هو في أن قوى محلية وعربية وعالمية منفذة بسلطاتها تشارك في عملية الإفناء القاعدية هذه، وعلى مرأى وسمع العالم، وتلك هي الصفاقة الكبرى، دون ذلك لا يمكن السؤال عما يجري، حيث إمكان الحديث عن عنف ما بعد الحداثة، عن مدن تباد، يراد إزالتها من الوجود، أكثر من روما، قرطاجة، وكل الأماكن الأخرى التي يجتهد طغاة التاريخ في إيجاد السبل التي تمكّنهم من تسويتها بالأرض، كما لو أنها لم تكن حية ذات يوم.
لا مجال لاعتماد التقييم الأخلاقي في الجاري، فالعنف القائم أكثر من كونه نفسه عنف دولة، فجماعة منتشرة مثل السرطان في الجسد، هي ” داعش “، ومن هم في نطاق العنف الداعش،  وهي تنتشي بقطع الرؤوس، وهتك الأعراض، ومعس الصغار، وسلطة متعددة الأسماء، تسحق كل من يقول لا إزاء أي قرار يعنيها، إن كل ذلك لا يتطلب تقييماً لها، إنما هو في الكشف عن وجود العنف التي اعتملت في الداخل، وكيف تنقسم الصورة الواحدة للمدينة، للشخص، لكل زاوية، إلى صور متعادية، وكل طرف يقبّح الآخر، كل ذلك، يُري أن أي حديث عن وجود دولة لها قانونها، شهدها تاريخ ما، ليس أكثر من وهم من الأوهام، وأن كل ما يشير إلى المؤسسة وما تكونه دستورياً، يماثل أي حديث عن سلطة تسمذي قانوناً وتركّبه تبعاً لميولها وأهوائها، وأن الذي نعيش منذ أكثر من عقود من الزمن، هو في الاتجاه المعاكس لسير التاريخ، للحياة التي تستحق أن تعاش، وأن كل ما يمكن قوله عن معقول يُطمَأن إليه حتى الغد المنظور لامعقول، لأن الذي نتابعة من دمار” حسب الأصول ” يحتاج إلى قيامة مضادة تستأصل كل أثر من هذه ” الأصول “.. من سيشهد ذلك، ومتى ؟
دهوك- في 1 أيار 2016 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف توطئة واستعادة: لا تظهر الحقائق كما هي، في الأزمنة والمراحل العصيبةٍ، بل تُدارُ-عادة- وعلى ضوء التجربة، بمنطق المؤامرة والتضليل، إذ أنه بعد زيارتنا لأوروبا عام 2004، أخذ التهديد ضدنا: الشهيد مشعل التمو وأنا طابعًا أكثر خبثًا، وأكثر استهدافًا وإجراماً إرهابياً. لم أكن ممن يعلن عن ذلك سريعاً، بل كنت أتحين التوقيت المناسب، حين يزول الخطر وتنجلي…

خوشناف سليمان ديبو بعد غياب امتدّ ثلاثة وأربعين عاماً، زرتُ أخيراً مسقط رأسي في “روجآفاي كُردستان”. كانت زيارة أشبه بلقاءٍ بين ذاكرة قديمة وواقع بدا كأن الزمن مرّ بجانبه دون أن يلامسه. خلال هذه السنوات الطويلة، تبدّلت الخرائط وتغيّرت الأمكنة والوجوه؛ ومع ذلك، ظلت الشوارع والأزقة والمباني على حالها كما كانت، بل بدت أشد قتامة وكآبة. البيوت هي ذاتها،…

اكرم حسين في المشهد السياسي الكردي السوري، الذي يتسم غالباً بالحذر والتردد في الإقرار بالأخطاء، تأتي رسالة عضو الهيئة الرئاسية للمجلس الوطني الكردي، السيد سليمان أوسو، حيث نشرها على صفحته الشخصية ، بعد انعقاد “كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي “، كموقف إيجابي ، يستحق التقدير. فقد حملت رسالته اعتذاراً صريحاً لمجموعة واسعة من المثقفين والأكاديميين والشخصيات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني،…

د. محمود عباس من أعظم الإيجابيات التي أفرزها المؤتمر الوطني الكوردي السوري، ومن أبلغ ثماره وأكثرها نضجًا، أنه تمكن، وخلال ساعات معدودة، من تعرية حقيقة الحكومة السورية الانتقالية، وكشف الغطاء السميك الذي طالما تلاعبت به تحت شعارات الوطنية والديمقراطية المزوّرة. لقد كان مجرد انعقاد المؤتمر، والاتفاق الكوردي، بمثابة اختبار وجودي، أخرج المكبوت من مكامنه، وأسقط الأقنعة عن وجوهٍ طالما تخفّت…