المخفي من زيارة جو بايدن – 3

 د. محمود عباس

لهذا يظن البعض أنه عندما لا تتم حل القضية الإسرائيلية-الفلسطينية، أو لا يفتح الحوار مع إيران، أو لا تحل مشكلة سوريا أو اليمن وغيرها والتي تم عرضه في نص البيان الختامي، يقال إن أمريكا فشلت، والزيارة لم تكن ناجحة، وعاد بايدن بدون نتيجة، والسعودية لم ترضخ لطلباته، وغيرها من التقييمات البسيطة، والتي لا تستند إلى أية دراسة واعية لاستراتيجيتها الطويلة المدى، فهي كإمبراطورية لا تهمها فشل نظام، أو تجزئة دولة، أو ديمومة حروب محلية، أو شعوب لم تصل إلى حقوقها، مقارنة بما تحققه على مستوى القارات، تهمها أمنها ومصالحها. يجب أن نعلم أن تحالفاتها وصداقاتها مبنية على هذين البعدين، ومن يفكر بعكسها يبين عن سذاجته في السياسة. وأكثر من أدركت هذه الجدلية كانت الإتحاد السوفيتي واليوم الصين وروسيا والدول المتطورة حاليا. 
  هناك من يرى أن إدارة جو بايدن أضعف الهيمنة الأمريكية في المنطقة، ويهملها، لكن يتناسون، هل هذا الإهمال يؤدي إلى خسارة أمريكا للمنطقة، وهل تضعف في مواجهة القوى الإستراتيجية المعادية لها، وهل مصالحها تتعرض إلى الخسارة؟ أغلب الناس ليسوا على دراية حول خلفيات تخليها عن أفغانستان بتلك السرعة، وأسباب سحبها لـ 130 ألف جندي خلال أسبوعين، بعد حوارات طويلة مع حركة طالبان، وتحلل بشكل خاطئ هدف التخلي عن الكميات الهائلة من الأسلحة لهم، والتي بينتها أمريكا تحت حجة تكلفة النقل، وعدم صلاحيتها، وفي الواقع كانت جلها من ضمن إستراتيجية ذات أبعاد متشعبة، وبعيدة المدى.
  أمريكا كإمبراطورية، لم تعد تحتاج إليها كبقعة جغرافية إستراتيجية على حدود الصين وجنوب روسيا، نفذت منها جميع مصالحها، فثبتت فيها الحركة الإسلامية الراديكالية مع كمية ضخمة من الأسلحة، تمكنها من خلق إشكاليات للصين وروسيا، ولئلا تحتاج مستقبلا إلى فتح علاقات لمساعدتها، كما فعلتها مع القاعدة في فترة الاتحاد السوفيتي، أي أن الطالبان ستقوم بجزء مهم من العملية.
  لكن تبقى مسألة إلى أي مدى ستتمكن الصين وروسيا من قلب المعادلة، وهو ما تعمل عليها الصين من البعد الاقتصادي، فقد عقدت عدة صفقات مع حكومة الطالبان كالتنقيب عن خام النحاس وغيرها من المعادن النادرة، لكن مع ذلك لا يزال خطر الإسلام الراديكالي المساند ربما للمكون الإسلامي في غرب الصين متوقعا. وفي الجهة الأخرى، وبديل أفغانستان، ركزت على الطرف الأوربي كأهم جبهة للإيقاع بروسيا، وعليه تم تقوية قواعد الناتو فيها، أي أن أمريكا أعادت ترتيب إستراتيجيتها، وهي لا تدرج ضمن الفشل، بل التخلي عن معركة من أجل كسب حرب طويلة الأمد، وهذه من صفات الإمبراطوريات وعلى مر التاريخ.
 لا يمكن تحديد من سيكون القطب الثاني، هل سيظهر بعد عقدين أو أكثر، فكما نعلم لكل إمبراطورية نهاية، قد تطول لعقود وربما لقرون، ربما مع المنافس كما كانت في عصر الاتحاد السوفيتي، وبريطانيا في بداية القرن الماضي، وهل سيسود منافسه ومتى ستكون البداية. 
 لكن المؤكد اليوم، أن الإمبراطورية الأمريكية هي الطاغية، وستكون على مدى عقود قادمة، ولا تعني أنها لا تلاقي صعوبات وتسير دون فشل أحيانا، لكن الخسارات الأنية والتلكؤ عن بعض المطبات، لا أهمية لها أمام كلية الهيمنة على العالم والقدرات المتصاعدة، ليس فقط اقتصاديا، وهي الأولى في العالم، بل اقتصادها توازي اقتصاد أوروبا واليابان والصين وروسيا معا، بل عسكريا والتي لا تقل عن السوية ذاتها. شركاتها منتشرة في معظم بقاع العالم، تسيطر على منابع الطاقة، والبحوث والمختبرات، وهي لا تزال تسيطر على عالم الفضاء وغيرها. وفي الداخل، ومن البعد الحضاري، والتي تعتبر جانب الأهم لديمومة أية إمبراطورية، كالديمقراطية والتي لا تزال كنظام مع دستور في أعلى مستوياتها، رغم نسبية هذا النظام ومقارنتها مع بعض الدول الحضارية الأخرى في العالم كأوروبا واليابان، ومثلها التعليم في كل مراحله، والشعب الأمريكي لا يعاني من نسبة البطالة، وخط الفقر في أدنى مستوياتها، ويتحسن مستويات الضمان الصحي والعائلي، أي عمليا أنها دولة لا تزال تطورها الكلي في تصاعد، ولا ملامح للتراجع في أي من القطاعات، باستثناء الطفرات التي تصيبها والعالم أثناء الدورات الاقتصادية.
  فما يقال أنها تخسر، كدولة أو كإمبراطورية، وما يطعن في مؤسساتها الحضارية دون التمييز بين الجانبين، ليست سوى قراءات خاطئة مبنية على مواقف فكرية أو إيديولوجية ومؤدلجة مسبقا، ولا علاقة لها بالتحليلات الاقتصادية – السياسية -العسكرية المنطقية، والتي يجب على كل من يبحث عن مصالح أمته ووطنه، أن يحلل ويدرس العلاقات الدولية ومصالحها بتجرد، ليتمكن من تنوير مسالك شعبه وحركاتهم السياسية. وإلا فالرؤية الخاطئة والدراسات الساذجة ليس فقط لأمريكا ومصالحها، بل للأعداء أو الأصدقاء تؤدي إلى النتائج الخاطئة وأحيانا الكارثية. 
الولايات المتحدة الأمريكية
16/7/2022م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…