الدكتور محمود عباس
يتبين أن إطلاع السادة الكتاب لم تتجاوز ثلاثة مصادر، لكتاب ثلاث، بعثيون يعملون لدى المركز القطري، عند كتابة كراسهم، لذلك ظلوا يحومون حول المفاهيم ذاتها عن الكورد وتاريخهم والجزيرة، وسقطوا في المستنقع الموبوء نفسه الذي يتمرغ فيه أصحاب مصادرهم، وانجرفوا لأسباب ما، وراء غاية سادة أولئك الكتاب ومموليهم، والتي جلها تحوم حول مفهوم ضحل تتعارض وكل ما كتب عن تاريخ القبائل العربية الحالية في الجزيرة ومواطنها الأصلية قبل ثورات حائل.
وعلى الأغلب لم يطلعوا على المراجع والمصادر الرصينة والمسنودة التي تتناول تاريخ هجرات القبائل من الجزيرة العربية إلى الجزيرة الكوردستانية، كالمؤرخون الإسلاميون القدامى، أمثال ابن الجوزي، والمقريزي، وابن عساكر، والطبري، واليعقوبي، وعماد الدين الأصفهاني، وياقوت الحموي، وابن الأثير، وابن خلكان، وغيرهم، والذين عاصروا الفتوحات الإسلامي الأولى والمتأخرة، والهجرات العربية.
وحديثا، هناك العديد من المصادر، ذات المصداقية والبعد البحثي العلمي، على سبيل المثال، كتابات المستشرق الألماني ماكس فون أوبنهايم عن العشائر العربية وترحالها من الجزيرة العربية، والدراسات عن قبائل الدليم وتوطينها في منطقة الأنبار والتي لم تتجاوز منطقة سنجار، وما أوردته (الليدي آن بلنت) في كتابها (قبائل بدو الفرات عام 1878م) وكتاب (وليد عباس محمد زويد)هجرات القبائل العربية إلى الجزيرة الفراتية من الفتح الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي، وأبحاث أحمد وصفي زكريا الموسوم ب عشائر الشام، ومقالة لـ (أسحق قومي) قبيلة الجبور في الجزيرة السورية مصدره أبناء زعماء العشيرة، المنشورة في موقع الحوار المتمدن، وغيرهم الكثير، وجلها تبين أن معظم الهجرات تمت بعد ثورات منطقة حائل؛ وسيادة قبيلة العنزة على الجزيرة العربية، وظهور آل سعود كملوك بمساعدة البريطانيين والوهابيين متبعي الشيخ عبد الوهاب (والد زوجة الملك سعود مؤسس المملكة) وكيف توسعت جغرافية الوجود العربي نحو البادية أولا ومن ثم اجتازت الفرات نحو الشمال متغلغلة في الجزيرة لاحقا، بعد ثورات حائل وخسارة آل الرشيد لحكم الرياض من نهاية القرن الثامن عشر وحتى عام 1910 م، وتجاوزت جغرافيات الاستيطان أثناء الغزوات الإسلامية الأولى وحتى منتصف الخلافة العباسية.
بحثنا في هذه الإشكاليات التاريخية بشكل مفصل في دراستنا (مصداقية الباحث العربي) بأعدادها التي تجاوزت الأربعين مقالة، وكان رد على بعض الكتاب الذين تناسوا العلاقات الإنسانية والرباط الوطني، لمصالح جلها شخصية، أو لربما لأبعاد عنصرية غرزتها فيهم الأنظمة العروبية السابقة ولا يتمكنون التحرر منها، أو أنهم لا يحاولون ذلك، لطغيان الصور النمطية المترسخة في أذهانهم، ومن بينهم محمد جمال باروت الذي يضعونه كمصدر رئيس لدراستهم هذه إلى جانب كاتب أخر لا يستحق التنويه إليه فهو من أحد المجندين لمهمة توسيع الشرخ بين الشعبين الكوردي والعربي في الجزيرة ولغايات ساذجة.
الجزيرة، كما نوهنا سابقاً، واستنادا على العديد من المصادر العثمانية والفرنسية، حتى عام 1920م كانت منطقة تابعة لولاية ماردين، أي لكوردستان، كما يسميها الوزير (محمد كرد علي) في تقريره عن الجزيرة عام 1932 بعد عودته من جولته التفقدية للمنطقة والاطلاع على واقع الشعب الكوردي في الجزيرة.
ومن خلال مصدرهم المذكور، وزير المعارف حينها (محمد كرد علي) تتبين أن الجزيرة كانت تقع جنوب كوردستان، والغريب هنا غياب الحديث عن المكون العربي في المنطقة، وهي دلالة على عدم وجود أية قبيلة عربية حضرية أو رحل في المنطقة، وإلا كان سيعتمد عليهم بنقلهم إلى الجغرافية الفاصلة بين الجزيرة وكوردستان، ولما نوه على أنه يجب أرسال الكورد إلى مناطق الداخل.
والأغرب في تقريره غياب المعرفة الطبوغرافية للمنطقة، وتغييب إشكاليات رسم الحدود بين كوردستان والجزيرة؟ أو ربما لمعرفة الوزير بما كان عليه الواقع المترابط والمتكامل طبوغرافيا وديمغرافية بين كوردستان والقسم الذي وضع تحت الاحتلال السوري، أي الجزيرة، بعدما قطعت عن ولاية مارين، تحدث الوزير (الكوردي!)عن التقسيمات السياسية الإدارية في الفترة التي كانت في طور التشكل أي ما بين عام 1927 و 1932م وهي من السنوات التي تمت فيها اتفاقيات انقره -1 وانقره -2 بين فرنسا وتركيا الكمالية على رسم الحدود بين سوريا وتركيا، أي بما معناه كان في الواقع يتكلم عن تقسيم كوردستان بين الدولتين، وهي سنوات تزايد تدفق القبائل العربية من بادية الشام إلى المناطق الوسطى من الجزيرة وتوجههم نحو الشمال، حيث الأراضي الخصبة الملائمة للرعي، والتي لم يأتي على ذكرهم في تقريره، إما لغياب المكون العربي في المنطقة، أو عدم وجود حضور مهم للقبائل العربية، أو كان هناك بعد ديني تجاه القبائل المهاجرة في العشرينات من القرن المنصرف، و صرفها تحت منطق الغزوات الإسلامية العربية الأولى.
كان الأولى بالمحاميين عوضا عن هذه الدراسة التي تزيد شرخ الصراع في الوطن الافتراضي بين الشعبين العربي والكوردي، إصدار كراس عن احتلال القوى الإقليمية لسوريا (جغرافية من قبل تركيا ومذهبيا من قبل إيران) وبدل من تركيزهم على مهاجمة ما كسبه الكورد من بعض الحقوق التي بها تقاربت الأبعاد الوطنية بين المكونات المتواجدة في المنطقة الكوردية، والتي جلها تصب في مصلحة سوريا كوطن للجميع، ومن بينها قضائهم على أخطر منظمة إرهابية في المنطقة، بل وربما في العالم، (داعش) والتي سخرتها تركيا لاحتضان المنظمات التكفيرية وعن طريقهم تمكنت من احتلال أجزاء من سوريا؛ مثلما فعلتها بقبرص قبل أكثر من نصف قرن، العمل على إسقاط النظام المجرم والمعارضة المرتزقة والتكفيرية اللتين، خدمة للقوى الإقليمية، دمروا الوطن وهجروا نصف ديمغرافيته وقتلوا أكثر من نصف مليون سوري.
رغم كل ما قدمناه، وقدمه البعض من الكتاب الكورد من الوثائق والدراسات المسنودة بالمصادرة العلمية، حول تاريخ الجزيرة الكوردية والنسب السكانية فيها، وعلى مر المراحل بدءً من الغزوات العربية-الإسلامية إلى اليوم ماراً بالقرن الماضي، وتصحيح التحريفات التي طالت إشكاليات تراجع عدد القرى الكوردية بالنسبة للعربية على منهجية المحتلين وبناء المستوطنات، والتي غطت عليها بعض الكتاب العروبيين بدراسات تفتقر إلى المصداقة، وتم الطعن فيها وبإثبات ميدانية دامغة من قبل بعض الكتاب، ومن بينهم الكاتب (علي شمدين) مع ملحق كامل بأسماء القرى وتبعيتها، ظل النهج العنصري مسيطرا على ذهنية البعض من الكتاب العرب، واستمروا في التلاعب بمنطق الوطنية والدفاع عن سوريا، وهم على دراية تامة أن ما يطرحونه وباء فكري يفاقم من العداء بين الشعبين الكوردي والعربي، ولن يتم بناء وطن على أسسه، بل تفتح الدروب للمتربصين لتقسيمها واحتلالها…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
18/8/2022م