علي شمدين
مع حلول العام الجديد (2022)، تكون الأزمة السورية قد تجاوزت عقدها الأول وهي لا تزال تحبو في نفق مظلم لا يفضي إلاّ إلى المزيد من الكوارث والويلات بسبب تعنت طرفيها الرئيسيين، المعارضة والنظام، وامتناعهما عن الإمتثال لاستحقاقات الحل السلمي وفقاً للقرار الدولي (2254)، هذه الأزمة التي اندلعت شرارتها الأولى من مدينة درعا أواسط آذار (٢٠١١)، إثر انفجار الغضب الجماهيري الذي تراكم خلال مايزيد عن نصف قرن من حكم حزب البعث الذي انفرد بحكم الدولة والمجتمع لأكثر من نصف قرن.
من المعلوم بأن هذه الأزمة التي سميت بـ(الثورة)، بدأت على شكل احتجاجات سلمية انتشرت على طول البلاد وعرضها كانتشار النار في الهشيم، مطالبة بالحرية والكرامة، الأمر الذي دفع النظام إلى أحد الخيارين، لا ثالث لهما: فإما الاستجابة العاجلة لمطالب الناس وشعاراتهم عبر عقد مؤتمر وطني شامل من دون إقصاء، أو تبني خيار شمشون والاستمرار حتى النهاية التي كانت تبدو- وبحسب معظم الخبراء والمحللين الاستراتيجيين- قاب قوسين أو أدنى.
إلا أنه، ومع الأسف الشديد، سرعان ما تصدر المتطرفون والمندسون واجهة الاحتجاجات وخطفوا هذه (الثورة)، من بين يدي أبنائها، وتسابقوا في تصعيد شعاراتها، وساروا بها وفقاً لأجندات الذين بادروا إلى تسليحهم وتمويلهم بسخاء من خارج البلاد، وأصبحوا حصان طروادة تحصن فيه الشبيحة بمهارة أذهلت المتابعين للشأن السوري، الذين قادوا الثورة إلى حيث يشاء النظام، ومن ثم عسكرتها لتنقلب إلى حرب داخلية بين جبهتي الصراع الذي أخذ طابعاً طائفياً دينياً، وشوفينياً قومياً، الأمر الذي فتح الأبواب على مصراعيها أمام مختلف القوى والجهات الدولية والإقليمية، للتدخل في هذه الحرب، وتأجيج الصراع على جبهتيها وفقاً لأجنداتها ومصالحها، جبهة يقف فيها النظام ويقودها أمراء الحرب، وجبهة سمت نفسها بالمعارضة يقودها تجار هذه الحرب الذين برهنوا ميدانياً، وفي وقت قياسي، بأنهم ليسوا بأفضل من النظام ويمثلون صورة مسخة عنه، وفي النتيجة لم يدفع ضريبة هذه الحرب التي تجاوزت عقدها الأول، سوى الشعب السوري الأعزل.
وبنظرة سريعة إلى الحصاد المرّ الذي خلفته هذه الحرب المجنونة خلال عقد من عمرها، نجد هذه الفاتورة الرهيبة التي سددها الشعب السوري بكل فئاته وشرائحه ومكوناته القومية والدينية والسياسية، من قتل ما يقارب نصف مليون، وإصابة ما يزيد عن مليوني شخص يعاني معظمهم إعاقات دائمة، وتشريد ما يزيد عن ثلاثة عشر مليون شخص داخل البلاد وخارجها، يعانون أقسى وأصعب الظروف الإنسانية في أماكن النزوح وداخل مخيمات اللجوء، وكذلك تدمير كامل البنية التحتية في البلاد، فضلاً عن الغلاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية، والانهيار الصاعق لسعر الليرة السورية، وتفشي البطالة وانعدام فرص العمل وحرمان أجيال متتالية من فرص التعليم والعيش بأمان واتساع حزام الفقر والجوع والحرمان حتى من لقمة العيش، وانتشار جائحة الكورونا في ظل انعدام أبسط الخدمات الصحية..إلخ.
وفي ظل هذه الظروف الكارثية كانت معاناة الشعب الكردي مضاعفة، حيث ظل من جهة يشارك الشعب السوري معاناته ويواجه معه أهوال الحرب الداخلية التي حلت بالبلاد عموماً، فضلاً عن انضمامه الفاعل إلى التحالف الدولي في مواجهة تنظيم داعش وتقديم الضريبة اللازمة لدحره، فإنه ظل من جهة أخرى وحيداً في مواجهة القوات التركية ومخالبها من مختلف الميليشيات الإرهابية والمتطرفة وتلك المحسوبة على ما تسمى بـ(المعارضة)، والتي لم توفر وسيلة محرمة إلاّ واستخدمتها ضد الشعب الكردي وتغيير ديمغرافية مناطقه التي تحاذي الحدود مع تركيا، بحجة ملاحقتها لتنظيمات كردستانية يصفها بالإرهابية، فاحتلت معظم هذه المناطق (عفرين، كري سبي وسري كانييه)، في وضح النهار وتحت أنظار المجتمع الدولي وأنظار النظام وصمتهما، وبتأييد مخزٍ من المعارضة ومشاركتها الميدانية معها عبر فصائلها المسلحة المتطرفة، وكذلك تهديدها اليومي والمستمر للمناطق الكردية الأخرى (كوباني، و الجزيرة)، لدفع سكانها نحو التشرد والهجرة والنزوح منها وتفريغها مما تبقى من سكانها، ومما يؤسف له في هذا الإطار، وتدمى له القلوب، هو انقسام الأطراف الكردية الفاعلة على جبهتي هذا الصراع الذي تجاوز في مبررات استمراره أخطر المحرمات، هذا بدلاً من المبادرة العاجلة إلى امتلاك إرادتها الحرة وقرارها السياسي المستقل، والاستجابة بوازع من مسؤولياتها التاريخية، للأصوات المخلصة المطالبة بالإسراع في توحيد صفوفها وخطابها من دون قيد أو شرط.
بعد كل هذه الضريبة القاسية التي دفعها ولا يزال يدفعها الشعب السوري بمختلف انتماءاته، القومية والدينية، فهو لا يزال أطرش في هذه (الزفة)، التي باتت تشبه كل شيء إلا أن تكون ثورة، وظل يدفع فاتورتها من دم أبنائه وكرامتهم، الذين أرغموا للسير ومن دون إرادتهم في هذا النفق المعتم دون أن يلمحوا أي بصيص أمل في نهايته التي لا تفضي إلاّ إلى المزيد من الكوارث والدمار على يد طرفي هذا الصراع العقيم الذي لا يزال دائراً على أرض الواقع بالرغم من ستار الصمت الذي صار يخيم عليه منذ أن استلم الديمقراطي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ (20/1/2021)، ولكنه صمت يسبق العاصفة بكل تأكيد، هذه العاصفة التي صارت تنذر بها النتائج المخيبة التي أفضت إليها سلسلة الحوارات والاجتماعات المتلاحقة التي عقدت هنا وهناك بين أطراف الصراع ومفتعلي هذه الحرب، وكان آخرها الجولة السادسة من حوارات اللجنة الدستورية التي انطلقت بتاريخ (18/10/2021)، والتي أعلن المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا (غير بيدرسون)، عن فشلها ومن دون أن يحدد موعداً آخر لاستئنافها بسبب تهرب طرفي الحوار من استحقاقاتها وتعنتهم في تقديم التنازلات اللازمة لإنجاحها، واصفاً نتائجها بأنها (خيبة أمل كبيرة)، هذا فضلاً عن استمرار الجهات الخارجية المتنفذة في الساحة السورية وخاصة الدولة التركية، في انتهاكاتها المتلاحقة للسيادة الوطنية واحتلالها للمزيد من الأرض من دون رادع، وفضلاً عن هذا وذاك، استمرار تشتت المعارضة السورية وتناحرها وفقاً لأجندات خارجية بحتة، ودخولها مع النظام في جنيف، في لعبة القطة والفأر..
أجل القطة التي صارت تأكل صغارها مع الأسف الشديد.
السليمانية1/1/2022