د. محمود عباس
تحديد العمق الزمني للبعد القومي لعيد نوروز، وعرضها كناقصة، تلاعب بالمفاهيم خلفها خباثة، ونقد الحراك الكوردي على أساسه، سذاجة، لأن معظم كتاب ومثقفي الشرق الأوسط، على دراية بالتطورات التي مرت بها عيد نوروز وانتقاله من البعد الديني والاجتماعي، إلى الفضاء القومي، ودونها أي تحليل أو تأويل جهالة في مجريات التحولات الثقافية بين شعوب العالم.
فمعظم المؤرخين، لا ينفون العمق التاريخ الثوري لعيد نوروز، وروابطه المتينة بالبعدين الروحي والميثولوجي للشعب الكوردي، فمن المعلوم أن جميع الشعوب الآرية التي تبنت الديانات الزرادشتية والأزداهية والمزدكية والمانوية، قبل الإسلام، كانت ولا تزال تحتفل بعيد نوروز، وهناك العديد من المصادر في هذا المجال، استندنا عليهم في كتابة بحثنا (هل كان للكورد أدباء وفلاسفة قبل الإسلام).
ففيما لو عدنا إلى جدلية الجزيرة من البعدين الديمغرافي والتاريخي، من عصر السلطات الإسلامية العربية إلى العروبية، وعرضنا الجدلية البعثية، حول تراجعها أمام التمدد الديموغرافي العربي، لا بد من دراسة مراحل التعريب والتهجير القسري في الجزيرة، كالتي تنفذ اليوم في منطقتي عفرين وكركوك، للحكم على ما يتوجب القيام به في ظل الواقع الجاري. كما ويجب تبيان نتائج خلفيات الحصار الاقتصادي الذي تم على مدى العقود الطويلة، والتي على أثرها تحولت الجزيرة من منطقة كوردستانية إلى جغرافية محتلة عربياً، بدءاً من المستوطنات البسيطة التي تمت في بداية الغزوات الإسلامية، والتي أصبحت في حكم أبناء المنطقة ولا نقاش عليها، لأنها قبل كل شيء غرزت في المنطقة تحت منطق الأمة الإسلامية، حتى ولو كانت قد ظهرت على خلفية الغزوات المتحولة بقدرة المؤرخ العربي الإسلامي (ياقوت الحموي) إلى الفتوحات العربية الإسلامية، وحيث اجتياح الجغرافيات، من الأندلس إلى شمال أفريقيا أرض الأمازيغ والقبط إلى كوردستان وما بعدها، وإرضاخ الشعوب أو تقبلهم للعنصر العربي على منطق الأمة الإسلامية، وهذا ما لا اعتراض عليه، واستمرت العلاقات بينهم وبين الشعوب الأصلية في كثيره بشكل سلمي.
إلى أن ظهرت الأنظمة الشمولية العروبية ونشروا مفهوم القومية العربية، وبها وضعوا نهاية للاستيطان العربي على خلفية الفتوحات الإسلامية، وقدموا الحجة لشعوب الجغرافيات المحتلة؛ الحق بإعادة أراضيهم وطرد المكون العربي إلى حيث موطنه، لأن الصفة التي كان يقبل بها كمواطن في المنطقة أزالتها الأنظمة العروبية، المذنبون في أنهاء مراحل التلاحم الإسلامي بين الشعوب، والبدء بمرحلة اختلاف الشعوب على الأسس القومية، وقد تشكلت بداياتها من فترة تحريفهم الممنهج للتاريخ الإسلامي، مع تحريف وتشويه تاريخ أصحاب الجغرافيات، وتسخيرها للقومية العربية.
فهم الجدلية ليست بتلك الصعوبة، فتجربة الأندلس واحتلالها قرابة خمسة قرون وعودتها إلى أصحابها، ومثلها أصحاب أرض الميعاد، بعد غياب قرون عديدة وسيادة العرب منذ الغزوات الإسلامية، أمثلة واضحة لشعب كوردستان والأمازيغ والقبط الذين يحق لهم في البعدين التاريخي؛ والقانوني-الإنساني والإلهي سيادة أراضيهم، خاصة بعد زوال عامل التآلف، وقد نبه إلى هذه الجدلية وبشكل جلي؛ الخليفة عمر بن الخطاب في قوله الشهير “نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله” فقد بدأت شريحة واسعة من الكتاب العرب وسياسييهم وبدعم من بعض الأنظمة العربية، يعتزون بالقومية العربية بدل الدين، وبها يكونوا قد حكموا على ذاتهم الذل والمهانة؛ حيث الثقافة العروبية، بعد القرون العديدة من العيش في العز الإسلامي، وبالتالي لا مجال لهم إلا: إما العودة إلى حيث قدموا منه، أو البقاء والاقتناع بالعيش الحضاري، وحيث المنطق الديمقراطي، تحت ظل أنظمة أصحاب الأرض، وهذا يتطلب تغيير الكثير من الذات، وربما من بينها اللغة، ولا تعني إلغاء اللغة العربية، كما كانت تفعلها الأنظمة العروبية الشمولية بحق الشعب الكوردي والأمازيغي والقبطي ولغاتهم، بل تعلم لغات أصحاب الأرض، أو الديمومة في الحروب الأهلية المذهبية؛ قد تتحول إلى قومية. ولا نستبعد في هذه المرحلة يقظة المستعربون، والانتباه إلى أصولهم وإعادة إحياء لغاتهم الأصلية المذابة، ومواجهة موجة القومية العربية الفاشلة، وقبول ما يجري في شرقنا، من التحولات الكارثية المؤدية إلى تغيير المفاهيم.
في خضم هذه الموجات الفكرية؛ على القبائل العربية المتواجدة في الجزيرة تقبل الواقع القادم، والاقتناع على أنهم مكون مرحب به في أرض غير أرضه، وعدم محاربة أصحاب الجغرافيات تحت منهجية الشرائح العروبية العنصرية الشعب الكوردي، والتكفيرية للشعب الكوردي الإيزيدي والمسيحي. فما يدعيه ويروجه البعض من كتابهم، ليس سوى تدمير للتاريخ الإسلامي العربي، وتشويه لقيمهم الأصلية وماضيهم، قبل أن يكون تحريف لتاريخ شعوب المنطقة، مثل تغطيتهم لبشائع المنظمات العربية التكفيرية التي أجرمت، وببشاعة يندى لها جبين الإنسانية، بحق الشعب الكوردي من الديانة الإيزيدية، والمسيحيين.
فجدلية الأغلبية الديمغرافية في المنطقة على سبيل المثال، والتي بدأت تتصاعد سنة بعد أخرى، بعدما العقود الطويلة من التغيير الديمغرافي، جدلية عقيمة تستند على القوة ودونها عدم، يتلاعبون عليها لإبراز منطق سيادة القومية العربية؛ بعدما هدموا بنيان التآلف الماضي؛ إما عن طريق المنظمات العروبية التكفيرية الإرهابية، أو الأنظمة القومية العربية العنصرية. وللعلم وربما للتحذير، فإن التهجير ستطال مستوطنات الغمريين، أو على الأقل سيجردون من الأراضي الكوردية المستولية عليها، دون القبائل العربية والتي ترسخت بينهم وبين الشعب الكوردي بنيان قوي من التآلف والتقارب، رغم كل بشائع سلطاتهم السابقة.
ولا شك ما ندرجه هنا ليس سوى رد على ما يطالب به الكتاب وشريحة من المثقفين والسياسيين العروبيين الذين لا يكفون الحديث عن التاريخ العربي، والغزوات-الفتوحات، وملكية أرضي الشعوب التي غزوها، وعرض منطق الأقلية والأغلبية الديمغرافية، وغيرها من المفاهيم العنصرية، حتى ولو اتسم الرد بمثله، ويبقى أمامنا مرحلة طويلة بالإمكان وضع التآلف مكان الكراهية، وتقبل الأخر، والاقتناع على أن كوردستان محتلة ومن ضمنها الجزيرة وعفرين، وبجغرافية متماسكة، من ديركا حمكو وتل كوجر إلى حيث لواء اسكندرونه، والاقتناع بأن الفيدرالية الكوردستانية ضمن سوريا لا مركزية هو الحل الأمثل لهذه القضية المصيرية.
كتبنا لبعض الكتاب والمثقفين والسياسيين العرب قبل سنوات، على خلفية دفاعهم عن محمد جمال باروت، طالبين منهم عدم التطرق إلى التاريخ بذهنية مفاهيم البعث، وطالبناهم بالابتعاد عن التحريفات التي تتضمنها كتابه، لكن وللأسف تبين على أن حب الظهور غلبت المنطق عند بعضهم، فعبثوا بالتاريخ وعلاقات الشعبين الكوردي والعربي في المنطقة، ونشروا مماثله، وأقدموا على تصعيد العداوة بين شعبينا، طاعنين في الوطنية التي يدافعون عنها بشكل نظري دون فعل، وهو ما كان البعث يلعب عليه ولا يزال، لديمومة الهيمنة، وكل ذلك لمجرد القليل من الشهرة على حساب العلاقة الإنسانية التاريخية والإسلامية بين الكورد والعرب والمكونات الأخرى في الجزيرة الكوردستانية، المكملة لجغرافية سوريا كوطن افتراضي.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
13/2/2021م