د. محمود عباس
أظهر النظامين حنكة في فلسفة السياسة، وتأويلات المبادئ الإسلامية، رغم أيمانهما بعقائد مذهبيهما، إلا أنهما عرفا كيف يسخران الإسلام لغاياتهم القومية بعد سلطاتهما، وبها تمكنا من التحكم بأدمغة؛ نصف الشعب الكوردي في شمال كوردستان، وإرادة شريحة مماثلة من الكورد الشيعة في جنوب وغرب كوردستان. وفي الوجه الأخر؛ سخر أردوغان وبخباثة المنطق الطوراني لسيطرته، بعدما حرك الشعور القومي التركي التوسعي على خلفيات إعادة تاريخ الإمبراطورية العثمانية من خلال تقليدهم في مراسيمه. والأئمة غطوا على النزعة القومية بعباءة آل البيت، المُفصل حسب مقاسات النزعة الفارسية.
في الوقت الذي تاه فيه الحراك الكوردستاني ضمن جدلية نظريات طوباوية ساذجة، أو في حقول المنطق الحزبي وخلافاتهم، فظل المجتمع الكوردي ضائعا ضمن الجغرافية الدينية، منغمسون بصراعات مذاهبهم حد الغرق، وظلت السياسة ترفا لم يعرفوه، ربما حتى اللحظة، والذين أدركوه لا يزالوا منبوذين من الحراك والمجتمع. ومن المعروف أن أول درجات السياسة هي تجاوز الحصار الديني أو المذهبي، والملائمة بينها وبين الطموحات، وتذليل الخلافات الحزبية عند حضور القضية القومية أو الوطنية.
للسياسة أوصاف عدة، بينها فن الخداع، عند متفوقيها تنعدم القيم، ولبلوغ الغاية تنتسى الأخلاق، ولتحقيق ما يطمحون إليه يعدمون الأعراف الإنسانية ويتناسون المبادئ الدينية، والفاشلون فيها سذج، قبل يكونوا جهلاء، لكنها حتماً لا تعني الجهالة الثقافية، مثلما الحنكة في ممارستها لا تعكس الذكاء، بقدر ما تبين قدرة التحايل والخبث.
سألوا غورباتشوف يوما في أحد الحوارات، عن ذكاء السياسيين؟ رد بما معناه: لا أستطيع الإحاطة بكل أبعاده، لكن ما أعلمه أن معظم الذين يقودون العالم كانت درجاتهم أثناء المراحل الدراسية في أدنى سوياتها، أي بما معناه أن الذين يوصفون بالأذكياء هم في الواقع سياسيون خبثاء. وفي الواقع، نحن الكورد أكثر الشعوب جهالة بهذه الخباثة والنفاق، وأحوجهم إلى شريحة مماثلة من السياسيين، وما يتم ممارسته في الواقع الحزبي الكوردي والكوردستاني تتناقض ومنطق السياسيين.
لقد حقق النظامين نجاحا واسعا على المستويين الإقليمي والعالمي، قدراتهما على التغيير والانتقال ما بين السياسية والدين مكنتهما من النجاح في الإستراتيجية وبسهولة كلما تطلب الأمر، مثلما فعلها النظام التركي خلال الشهرين الأخيرين، إلى درجة دفع بالبعض من شخصيات أدارة أردوغان، بينهم وزير دفاعه، استخدام لغة الاستجداء مع أمريكا، وتخفيف لغته مع أوروبا ولهجته مع إسرائيل، وهذه هي المرة الأولى، تبين عن انحراف حاد في سياسية إدارة أردوغان، منذ أن بلغت تركيا إلى مستويات الدول العشرون في العالم من حيث البنية الاقتصادية ( تحتل المرتبة الثمانية عشرة في العالم؛ بدخل وطني سنوي، وصلت إلى قرابة 850 مليار دولار، تجاوزت دخل هولندا) وهذه أول مرة، بعد زوال منطق صفر المشاكل، يتحدث فيها كبار مسؤوليها ليس فقط بمنطق الدبلوماسية المرنة بل بالمظلومية مع أمريكا، منتقلين في تصريحاتهم من لهجة الشراسة والتهجم على الأطراف إلى واقع الملامة والملاطفة.
وفي إيران بدأ الانقسام يتوضح ضمن الشريحة السياسية الحاكمة، ما بين المحافظين والليبراليين، حول أساليب العودة إلى اتفاقية السلام النووية، والجهتين يتخلون عن المبادئ المذهبية أمام المصلحة السياسية، وتدرج في الأوساط الدبلوماسية احتمالية التخفيف من المد الشيعي الإيراني في المنطقة أمام ضغوطات الإدارة الأمريكية الجديدة، وهنا إدارة جو بايدن تضغط على روسيا كمرحلة أولى للتأثير على تركيا وإيران.
يقول السفسطائي الأثيني أنطيفون في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد في كتابه (في الحقيقة) ” الطبيعة (السياسة) هي ببساطة، الأنانية وحب المصلحة الذاتية…. والمصلحة الذاتية كمبدأ أخلاقي متعارض مع ما يسمى بالأخلاق. فمن يتبع الطبيعة يبذل لصالح نفسه دائما غاية الجهد المستطاع” والسياسة فن نابع من الطبيعة.
يطبق أئمة ولاية الفقيه وأردوغان هذه المنهجية بدقة، وهي حنكة؛ لكنها تتعارض في الواقع مع المبادئ الإسلامية، والتي تضع الأخلاق على قمة التعاملات البشرية. وفي بعد أخر يقول السفسطائي الأخر ثراسيماخوس قبل أفلاطون أن ” الطبيعة هي حكم القوة وليست حكم الحق” والسياسي الناجح هو الذي يتعامل مع الواقع مع وجود أو غياب القوة. وقد كانت هذه روح السياسة الأثينية إزاء حلفائها، وهو ما يطبقه النظامين، الإيراني والتركي، وتعني أنهما يؤمنان من جهة بالإسلام كدين، متصارعين كمذهب، ويطبقان قوانين الطبيعة الإنسانية، وليست الإلهية كما يدعونه وينشرونه بخبث بين المجتمع الكوردي، وبمنهجية متشابهة.
السياسي الأناني الخبيث والناجح، هو الذي يسخر العدالة والقوانين حسب المصلحة الذاتية، وليس العكس، وقد شاهدنا كيف قام أردوغان ليس فقط بتغيير الدستور التركي حسب مصالحه، بل لائم استراتيجيته على مقاس التغيرات التي حدثت خلال سنة من عهد أوباما، وأربع سنوات من فترة ترمب، والتي تبجحت فيها تركيا كدولة لا تساوم على هيمنتها، والأن هناك ارتداد في سياسته على الساحة الدولية مع الإدارة الأمريكية الجديدة (إدارة جو بايدن)، ذاكرا وبلسان وزير دفاعه، إنهم وأمريكا أصدقاء في الناتو على مدى نصف قرن وأكثر، لكنهم مع ذلك يتركوننا ويتعاملون مع الـ ب ي د وقوات قسد، وكررها في عدة مناسبات أخرها قبل يومين.
وفيما إذا خرجنا من جغرافية النظامين السياسية، وراقبنا بعدهما المنهجي، لوجدنا أنهما يناقضان ذاتهما، ما بين النظرية والتطبيق، فكما يدعون أنه بطبيعتهما الأخلاقي أي الديني، لا يفرقان بين الشعوب، لكنهما في الواقع العملي، أفضل الأنظمة التي تطبق الفلسفة السياسية (هنا يدرج معهما النظام البعثي في كل من العراق وسوريا) أحد أهم علوم الطبيعة، حيث انعدام الأخلاق، وإنكار القيم الدينية، والأنانية الفردية، والاعتداد بالذات إلى درجة التشبه بآل البيت والسلاطين العثمانيين، والتي هي نابعة من الرغبة في المتعة والسلطان.
ولإرضاء إدارة جو بايدن، قام أردوغان بعزل عدة شخصيات مهمة في إدارته، وهم أصحاب الصفحات السوداء عند الأمريكيين، بينهم صهره مدير بنك خلق، أملا ألا تتم معاقبة تركيا اقتصاديا، لأنها متهمة في المحاكم الأمريكية بعمليات غسل الأموال وعلى المستويات الدولية، ومساعدة إيران متجاوزا الحصار الاقتصادي عليها. ومثلها قريبا، على الأغلب في الانتخابات القادمة، الشهر السادس، ستتمكن الشريحة الأقرب للتعامل مع منطق الحوار مع أمريكا وأوروبا بالسيطرة على النظام وبمساعدة المرجعية الشيعية، خاصة عندما تتأكد أن وجودها كنظام في خطر.
كما وفي واقع الشرق الأوسط، والسوري حصراُ، لا يستبعد أن يتخلى الأول عن أدواته، في بعض الجغرافيات التي تتعرض فيها مصالح أمريكا وإسرائيل للخطر، والتدهور الحاد في العملة السورية بادرة تراجع الدعم الإيراني الاقتصادي، والتي لم تكن قد حصلت على مدى السنوات العشر السابقة حتى عندما كان الحصار الأمريكي عليها أقسى في ظل إدارة ترمب.
ومثلها تركيا، قد تتخلى عن المنظمات المعارضة السورية في أية لحظة، بعدما سخرتهم لمصالحها على مدى السنوات الماضية، بينها المدرجة ضمن قائمة الإرهاب، فالذي يتخلى عن سياسة القوة ويتنازل عن مصالح تركيا لمصالحه الذاتية الأنانية، لن يهون عليه التنازل عن أدواته، بينهم الجيش المسمى بالوطني، التي قد تصبح عبأً عليه، في قادم الزمن.
لا شك لا عتب على الذين خدموا ويخدمون أممهم وقومياتهم وبتفاني، وسخروا كل المفاهيم والأدوات لمصالح شعوبهم أو لأنظمتهم، لكن العتب علينا نحن الحراك الكوردستاني الثقافي والحزبي (وليس السياسي الذي لا يزال هشا وملغيا من الساحة الكوردستانية، وبإرادة حزبية) لعدم توعية الذات والمجتمع، والانغماس في الخلافات الداخلية والتي أدت إلى شبه استحالة في امتلاكنا للإمكانيات المماثلة لأعدائنا، بل والأبشع كلما يزداد الضغط الخارجي؛ نغوص في مستنقعنا، ويزداد انغلاقنا على ذاتنا، لننهش في بعضنا ضمن السجن الذي بنيناه ولا نعرف كيف نخرج منه، نتناسى المتربصين بنا، والذين يحتلون أدمغتنا وجغرافيتنا. والأكثر ألما أننا نضع خلف كل خطوة وطنية كلمة و(لكن) الطرف الأخر…لتنهر التهم والحجج الكافية لإلغاء أي تفاهم أو تقارب.
للأسف أغلبية حراكنا بشقيه، لا يزال دون مستويات خلق أمل عند أمتنا بتحقيق مستقبل جميل، وما تبين خلال السنوات القليلة الماضية، أنها لم تتمكن من الحفاظ على قسم واسع من المكتسبات التي قدمتها لهم الدول الكبرى على خلفية مصالحها، وبالتالي نحن كشعب كوردي، وكحراك كوردستاني أمام مراجعة شاملة لمفاهيمنا ووعينا ومداركنا، نحتاج إلى حوارات ونقاشات عامة مبنية على الوعي والمصلحة الوطنية، والبحث عن الحلول بعيدة عن التخوين وإلغاء الأخر، على الأقل لنكن على مقربة من مدارك وقدرات الذين تمكنوا من تسخير الدين لأنظمتهم وخلقوا المذاهب في الإسلام لمصالح شعوبهم.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
20/3/2021م