جان كورد
جرت في سوريا في 26.05.2021 انتخابات الرئاسة التي تم تبريرها من قبل النظام بأن الدستور السوري يفرض إجراءها، وهو الدستور الذي لم يهتم بوجوده أحدٌ من رجال السلطة منذ ما سميّ بالحركة التصحيحية التي قادها الرئيس السابق لسوريا حافظ الأسد في عام 1970 ضد منافسيه في الجيش والأجهزة الأمنية وفي حزب البعث العربي الاشتراكي بانقلاب عسكري “أبيض!” كما وصفته إذاعة بى بى سي اللندنية آنذاك. تم دفع المواطنين، طوعاَ وقسراً إلى مراكز الانتخاب الذي جرى من خارج إحداثيات الإرادة الدولية التي حددت المستقبل السوري القريب بضرورة تشكيل حكومة مؤقتة تحت إشراف دولي متفق عليه في منظمة الأمم المتحدة وأصرّت على ذلك، ولذا فإن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي اعتبرا هذا الانتخاب المعروفة نتيجته سلفاً “مزوّرة وغير شرعية”، وما هي إلاّ كالانتخاب الرئاسي السابق لتعزيز بقاء سلطة العائلة الأسدية على الحكم، تماماً مثلما هو الوضع في كوريا الشمالية،
وهذا لا يغيّر من الأوضاع الحالية في سوريا وستستمر معاناة الشعب السوري، والاقتصادية منها بشكل خاص، طالما حدثت هذه الانتخابات التي أوجد القائمون عليها عدة شخصيات كراكوزية مغمورة لن تحقق أي انتصارٍ ديموقراطي في البلد الذي تحكمه سلطة دموية بكل معنى الكلمة منذ عقودٍ من الزمن. وباستمرار معاناة الشعب السوري، سواءً ما يعيش حياةً عسيرة في المناطق التي تحت سيطرة النظام أو ما يعيش في المخيمات وبلدان اللجوء، تزداد الأوضاع سوءاً ولن يقدر حلفاء الأسد، ومنهم روسيا البوتينية وإيران الملالي تقديم أي امكاناتٍ لتحسين أوضاع السوريين غير القادرين على تأمين أساسيات الحياة الاعتيادية للبقاء على قيد الحياة، بسبب الانهيار الاقتصادي وتردي المعيشة وشحة الموارد الضرورية، وهذا يعني أن مشروع “الأمل في العمل” الذي طرحه الرئيس الأسد كشعارٍ انتخابي له، سيبقى حبراً على ورق، ولن يكون هناك “إعادة إعمار” إلاّ بالركوع دون تردد أمام الدول العربية الغنية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وسواها، ويعني ذلك التخلّي، ولو للمرحلة القادمة، من الولاء الأسدي لملالي إيران، إلاّ أن هذا التخلّي عمن دافع عنه قد يفقد الأسد رأسه أو يفقده على الأقل عرينه الذي لا زال متشبثاً به بفضل المساعدة العسكرية والأمنية والمالية الضخمة التي قدمتها له إيران وبفضل القوة العسكرية الهائلة للحليف الروسي الذي لم يقدّم خدماته الجليلة للعائلة الحاكمة بمساهمته الكبيرة في تدمير المدن السورية وتقتيل وتشريد الملايين من السوريين سوى من أجل تثبيت وجوده على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. لا زالت تجثم قوات عسكرية لعدة بلدان اقليمية ودولية على التراب الوطني السوري حتى الآن، فالولايات المتحدة الأمريكية تسيطر على شمال – شرق سوريا، وهي مساحةٌ واسعة من البلاد، ومنها تأتي معظم الخيرات والثروات البترولية والحيوانية والغذائية، وتعيش فيها أغلبية كوردية وأقليات غير عربية لها مطالب سياسية – ثقافية واضحة، ولم تشارك في انتخابات الرئاسة لأن نظام الأسد لم يتمكّن من سماع تلك المطالب وتنفيذها، حتى في أوج محنته الدموية التي كادت تقضي على نظامه. وبالتأكيد فإن الأمريكان قد حذروا حلفاءهم الكورد من مغبة تحقيق رغبة الأسد في إدلاء أصواتهم لصالح استمراره في الحكم. والأتراك الذين يؤمنون بأن شمال سوريا وشمال العراق ملك موروث لهم من عهد الدولة العثمانية، وسياستهم حيال الأراضي التي يحتلونها، منذ مجيئهم من أواسط آسيا قبل عدة قرون هي “مسك الأرض” دون أي تراجع عن ذلك، وإن دخلوا من أجلها في نزاعاتٍ طويلة الأمد، بل وإن شنوا بسببها الحروب الدامية، فإنهم يحتلون مناطق جبل الكورد (عفرين) وسرى كاني (رأس العين) وكرى سبي (تل أبيض) وعيونهم على كوباني (عين العرب) وباقي أراضي الجزيرة، حيث منابع البترول وحقوق القمح والمراعي الواسعة، أي الثراء الفاحش، ويعلنونها بكل صراحة أنهم سيحاربون لمنع الكورد عن الحصول على أي حقوق قومية لهم، حتى على سطح المريخ. روسيا صارت لها قواعد ومؤسسات وحراك اقتصادي واسع في غرب سوريا، وإيران لها ميليشيات مسلّحة في أطراف العاصمة وجنوب البلاد، تسعى للسيطرة على سوريا مثلما تسيطر على بغداد واليمن ولبنان، وتعمل جاهدة للوصول إلى حدود سوريا المتاخمة للجولان السوري المحتل، ناهيك عن تواجد فصائل مسلحة تأتمر بأوامر حكومات دول إقليمية مختلفة ومن أهمها حزب الله اللبناني شكلاً والإيراني حقيقةً. وكذلك موجات القصف الاسرائيلي المتتالية منذ سنوات على مقرات الفصائل الموالية لإيران وحزب الله، بل ومواقع عسكرية هامة وخطيرة للنظام السوري ذاته.
في هذا الجو المشحون بكتل النار، وهذا التنافس على رقعة الشطرنج السورية الصغيرة، يبدو أن هذه الانتخابات “الناقصة” لعدم مشاركة الملايين من السوريين فيها بسبب تشرّدهم في بقاع العالم، وبسبب عدم وجود الظروف الديموقراطية التي تتيح للمواطن المساهمة بحرية تامة، لن تغيّر في سلوك النظام حيال المعارضة المقهورة والخاضعة لأهواء حكّام المنطقة إلى حدٍ كبير، وهذا يعني بالتالي عدم التفاته للوجود السياسي الكوردي الذي ظل خارج المشاهد الشعبية المعهودة في الأيام التي تسبق هذه الكرنفالات التافهة، طالما لم يتمكّن الكورد، رغم حواراتهم المملّة في ظل “الضامن!” الأمريكي من فرض أنفسهم كقوة بشرية هائلة ومتماسكة وذات أهدافٍ واضحة وثابتة، على الرغم من تأكيد معظم قادتهم على أن حل القضية الكوردية السورية في دمشق وليس في أي مكانٍ آخر في العالم، مع عدم إهمالهم الاعتماد على حلفائهم الأقوياء من خارج سوريا، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا. ما العمل الآن؟ سيسعى نظام الأسد رغم أن سيف “قانون قيصر” لا زال يحزّ في رقبته، إلى مدّ أياديه في اتجاهاتٍ مختلفة، بل متناقضة في مصالحها واهتماماتها، وسيكون هناك حراك دبلوماسي سوري مدعوم من وراء الستار روسياً لتحسين العلاقات العربية مع دمشق، مع الظهور بمظهر المنتصر عسكرياً وسياسياً على المعارضة، وقبل كل شيء العلاقات مع المملكة العربية السعودية التي تساعد معظم الدول العربية بالمال الوفير، وشرطها الوحيد هو ألا تتدخّل حكوماتها في الشؤون الداخلية السعودية، كما سيعمل الأسد على إقامة علاقاتٍ حسنة مع مصر القوية والهامة في المنطقة وكذلك مع المملكة الأردنية الهاشمية التي فيها أعدادٌ كبيرة من اللاجئين السوريين، ومع لبنان والعراق، أي أن دمشق ستطمح في العودة إلى جامعة الدول العربية، ولربما يتحرّك الأتراك صوب دمشق وهم الذين يجدون عمقهم الاستراتيجي منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العالم العربي وآذربايجان، على أمل الوصول إلى تركستان وتركمنستان، حيث بلادهم الأصلية. هذا يعني أن الدور الكوردي في التأثير في سياسات النظام الأسدي، رغم ضعفه المتعدد الوجوه، سيكون ضئيلاً للغاية، لأن العرب قد يفكرون هكذا: “لو أننا احتضنا الأسد رغم ساديته في القمع لكان أفضل لنا من أن ندعه للفرس الذين حوّلوه إلى بلبلٍ في قفصهم!”، وبمجرّد أن يتفق العرب والأتراك على عناق الأسد وحاشيته الدموية، فإنهم سيدعمونه للقضاء على الوجود الكوردي السياسي ولربما القومي أيضاً بذريعة إعادة هيبة الدولة السورية والحفاظ على سيادتها التامة على كل أراضيها لأن الأسد لن ينسى عدم زحف جماهير الكورد لإعادة انتخابه من جديد، ولن ينفعهم حماية بعض الكورد لتمثال حافظ الأسد، رغم ثورة الشعب السوري على نظام نجله بشار، وسط قامشلو أو تردادهم لمقولة “نحن الذين ظلوا على الخط الثالث بين النظام والمعارضة!” وحافظ الأسد هذا هو الذي بنى لعرب الغمر في مناطق الكورد أكثر من أربعين مستوطنة عنصرية على غرار المستوطنات الاسرائيلية. أمّا أن يتخلى الأتراك عن المناطق الكوردية في شمال سوريا في التصالح مع الأسد فهذا مستبعد لأنها واقعة ضمن إهتمامهم وأولوياتهم التي تحدّث عنها الدكتور أحمد داوود أوغلو في كتابه بصدد “العمق الاستراتيجي” لتركيا الذي صدر في عام 2001 ويلقي الضوء الساطع على التفكير الطوراني السياسي.
لذا على الكورد البدء بجدية في لملمة قواهم وتوحيد صفوفهم وتجديد عزمهم على الكفاح من أجل حقهم القومي السليب، من خلال تحالف حقيقي مع المعارضين الديموقراطيين في المنطقة، وترك الأوهام والأحلام الباهتة عن الأممية التي لم تطعم مؤسسيها خبزاً ونبذها معتنقوها بعد أن ذاقوا مرّها، وذلك من قبل أن يتفّق الأتراك والنظام السوري على خطواتٍ مشتركة لقمع شعبنا في المستقبل القريب.
kurdaxi@live.com
27.05.2021