د. محمود عباس
معروف أن العديد من الخطط العسكرية والسياسية يتم التمهيد لها مسبقا، عن طريق نشر شرارة إعلامية، كمقال أو خبر تنشره صحيفة مشهورة، لتفاقم من زوبعة الصراع قبل البدء بحرب ميدانية، وهو ما تم قبل حرب روسيا وأوكرانيا.
فما نشرته الصحيفة الأمريكية (فورين بوليسي) اليوم من التهويل والتضخيم غير المعقول، حول قوة حزب الله العسكرية، وعلى أنها أقوى بكثير من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، تملك مستودعات ضخمة للأسلحة المتنوعة، وكميات هائلة من الصواريخ المتطورة (قرابة المليون صاروخ، وهو عدد لا تملكه الدول الأكثر تطورا في العالم) والغريب أنها استندت في الأخيرة على التصريحات المريبة لقادة الحرس الثوري الإيراني، ولتضخيمها تم التنويه على أنه بينها صواريخ روسية.
وشبكة واسعة من الأنفاق تحت الأرض في معظم أجزاء الجنوب اللبناني أوسع وأفضل تقنية مما بنته حماس (وبالمناسبة نفس العقول التي دفعت بحماس وحزب الله على بناء الأنفاق دفعت بقوى الإدارة الذاتية في غرب كوردستان لبناء مماثل والكل يعلم، وقد نوهنا مرارا لسذاجة هذا المشروع الدفاعي وطلبنا إيقاف المخطط غير المجدي في عصر التطور التكنولوجي الهائل للأسلحة، وكان الأنسب صرف تلك الأموال على تطوير البنية التحتية المدمرة، وهو ما لم تفعله قوى الإدارة الذاتية، ولا حركة حماس، ولو فعلتها لكان شعب غزة تقريبا بشبه غنى عن العمالة في إسرائيل، ولنافس جنوب لبنان شمالها تطورا) ويروجون على أن حزب الله تملك القوة الكافية لتهدد أمن مستوطنات إسرائيل ومستقبلهم، وربما تستعد للهجوم على قواتها في الشمال، وغيرها من التهويل والتضخيم، ومن الغرابة مشاركة الإعلام الإيراني بشكل مباشر في هذا، وبتصريحات مباشرة من قادة حرسها الثوري، فهل الغاية هي دفع إسرائيل على الهجوم، مثلما فعلته مع حماس.
في كلاسيكية الحقل السياسي العسكري هذه الضجة هي بداية لتحضير واسع الأبعاد من قبل إسرائيل لاجتياح الجنوب اللبناني، وربما بموافقة القوى الكبرى الداعمة لها، للقضاء على الحزب، كأحد أجنحة إيران المتعددة في المنطقة، والأكثر أهمية من حماس، بعدما تكاد أن تنتهي من حربها في قطاع غزة، وهشمت الحركتين عسكريا وإعلاميا بين الشعب الفلسطيني، وفي الواقع تتفق معظم الأطراف الإسرائيلية بأنه إذا لم يتم الحد من عنجهية حزب الله لا يستبعد أن تدفع بها إيران لتقوم بعملية مماثلة لما أقدمت عليها حماس في الداخل الإسرائيلي، وما ستقوم به في الجنوب اللبناني ستدرج ضمن المخططات العسكرية وحيث الرد الفعل الاستباقي قبل حدوث الكارثة، وقد كانت تجربتهم مع حماس تنبيه قوي لجميع القوى الإسرائيلية، لذلك لا بد من القضاء أو إضعاف حزب الله قبل وقوع الحدث.
والسؤال المحير: لماذا هذا الدعم الإيراني للتضخيم وتعويم قوة حزب الله، وهي على دراية تامة بأن القضاء عليه أسهل من القضاء على حماس، بسبب طبيعة المنطقة والتوزع السكاني والدعم الدولي، وجميعها ليست في صالح حزب الله المدرج ضمن قائمة الإرهاب، والمرفوض من أغلبية الشعب اللبناني، وغيرها من العوامل.
بينت إسرائيل، وبتزامن مع هذا المقال، وما تلقفته الأقنية المعنية بأخبار المنطقة، إنها على دراية تامة بمكان وجود حسن نصر الله، وتنقلاته، وبإمكانها أن تغتاله في أية لحظة، وهو ما أكدته إيران ونبهته، وبالتالي ما يجري في جنوب لبنان، والتهويلات الإعلامية، مقدمة لاجتياح وشيك لجغرافية حزب الله، ولا يستبعد أن تضع إسرائيل خطوط عسكرية – إدارية تفصل لبنان الوسط والشمال عن الجنوب، أي تقسم لبنان كما قسمت غزة، وبالتالي دولة لبنان لن تعود إلى ما هي عليه، سياسيا وعسكريا وإداريا، وهو ما حصل لقطاع غزة الأن، أي عمليا مصير شعب جنوب لبنان لن يكون بأفضل من مصير شعب الفلسطيني في غزة، وإيران هي المسؤولة عما سيحدث هناك. ومن جهة أخرى، لا يستبعد أنها وربما لغاية إستراتيجية جديدة تريد أن تتخلص من هيمنة حزب الله من خلال تسليحها وتقويتها ودفعها للقيام بعمل مماثل لأداتها السابقة، والتي أدت إلى تغيير المعادلة في الصف الفلسطيني.
أمريكا وإسرائيل، كمصلحة مباشرة، ينفذان مخطط واضح، القضاء أو إضعاف النظام في إيران، بعدما لم تجدي معها الحصار الاقتصادي طوال العقدين الماضيين. فالقضاء على قوة حماس، كانت مقدمة لإزالة أدواتها بتسلسل مخطط من قبل الدول الكبرى المعنية بالأمر، ويتبين أن حزب الله هي التالية، ولا يستبعد أنها كانت تدرك هذه النتيجة مع ذلك ضحت بأداتها، وتدرك ما تفعله مثلما تدركها الأطراف المقابلة أمريكا وإسرائيل، لذلك يعتقد من حيث الخدع السياسية، أنها تعيد النظر في إستراتيجيتها ربما بدعم روسي، تضحي ببعض من قوة أدواتها لغايات بعيدة المدى، ربما لإنقاذ الذات المدمرة اقتصاديا، ومنها عدم القدرة على استمرارية تمويل أدواتها.
وهو ما ينتبه إليه سلطة بشار الأسد، كأحد أدوات إيران الموجودة على اللائحة، فيحاول التخلص من الوجود أو الهيمنة الإيرانية المتشعبة فكريا ومن ميلشياتها الضخمة العدد، بمساعدة روسيا، لكن الحرب الأوكرانية أضعفت القدرة الروسية على المواجهة، وبالتالي فيما إذا يأس النظام في دمشق، ستلجأ على الأرجح إلى التطبيع مع إسرائيل أو عملية مشابهة، وتقربها من السعودية، وتقبلها الحوار مع تركيا، والعمل خلف الكواليس للعودة إلى الجامعة العربية، وقول بشار الأسد قبل شهرين على أنه هناك حوارات غير مباشرة مع أمريكا، والرسالة كانت في الواقع عكسية، وتعني بأنه يرحب بأي حوار تطلبه أمريكا، كل هذا تمهيد لإنقاذ ذاته ونظامه من قادم لا يحمد عقباه.
الولايات المتحدة الأمريكية
19/6/2024