كما أغفل أموراً كانت لا تقل أهمية عن ما هو وارد في متن البلاغ المذكور.
وفي هذا المقال سأقوم بقراءة نقدية لذاك البلاغ هادفاً إلى ما هو خير ومصلحة بلدنا ومجتمعنا، راجياً – سلفاً – من الإخوة المعنيين بالنقد أخذه وصاحبه بسعة الصدر.
يستعرض البلاغ العام الفائت 2006م واصفاً مروره بالبطيء الكئيب على الوطن والمواطنين السوريين حيث أن العزلة (يقصد عزلة النظام السوري) عن الشعب وعن الدول العربية والعالم «تزداد عمقاً وكثافةً» وأن مشكلات الحياة اليومية تثقل كاهل معظم المواطنين، وإن سلوك النظام قد عكس هدفاً مركزياً وهو «الحفاظ على النظام بغض النظر عن الثمن الوطني والاجتماعي الذي يمكن أن يدفع».
وقد تجلى هذا السلوك على صعيدين يمكن سردهما كالتالي حسب ما جاء في البلاغ:
على الصعيد الخارجي:
1- دارت تحركات النظام حول مخرج واحد لحل أزمته وهو الوصول إلى حوار مع الإدارة الأميركية..
«وعندما لم يلقَ هذا التوجه تجاوباً أمريكياً حاول النظام فتح ثغرة في جدار العزلة عبر البوابة الإسرائيلية».
2- سعي النظام لتعطيل المحكمة ذات الطابع الدولي.
3- تعميق تحالفه مع إيران.
وعلى الصعيد الداخلي:
1- تشديد قبضة النظام للتضييق على كافة أشكال المعارضة الداخلية.
2- « إبراز أنباء عن اعتقال خلايا «جهادية» «تكفيرية» لإعطاء انطباع بأن البديل للنظام هو قوى إرهابية متطرفة».
بعد هذا يصل البلاغ إلى نتيجة مفادها أن «مشكلة النظام ليست مع الضغوط الخارجية والعزلة الاقليمية والدولية والمعارضة الديموقراطية وحسب بل كذلك مع المواطنين البسطاء الذين يبحثون عن قوت يومهم والذين يزدادون توتراً بسبب تراجع قدرتهم الشرائية وتخلي النظام عن مسؤولياته إزاءهم».
في قراءتي لما تم سرده أعلاه أتفق مع البلاغ في تحليله لسلوك النظام والهدف من ذاك السلوك، إلا أني أرى في ذاك التحليل بعضاً من النقص والقصور أستعرضه في الآتي:
فعلى الصعيد الخارجي لم يكتف النظام بالنقاط الثلاثة المذكورة (البحث عن حوار مع الإدارة الأميركية، والسعي لتعطيل المحكمة ذات الطابع الدولي، وتعميق التحالف مع إيران)، بل إن هناك جوانب أخرى لسلوك النظام لا تقل أهمية وخطورة عما ذكر.
فتعميق الأزمة في العراق وفلسطين مثلاً لم يكن بمعزل عن سلوك النظام السوري، وليس أدل على ذلك من تحويل العاصمة السورية دمشق إلى معقل لمحاربة القوى المعتدلة والديمقراطية في فلسطين أو في العراق، وقد رأينا مثلاً خالد مشعل (رئيس المكتب السياسي لحماس) وهو يبعث بقنابل صوتية المقدمة دموية النتيجة منطلقها دمشق ومستقرها الشعب الفلسطيني وأمنه واستقراره وسلطته الفتية ودولته المنشودة.
كما رأينا الناطق باسم «حزب البعث العراقي» وهو يحارب الشعب العراقي من معقله الدمشقي..
وهذه مجرد أمثلة لا غير.
وإذ يكتفي البلاغ بأن النظام سعى إلى تعطيل المحكمة ذات الطابع الدولي، فإنه لا يذكر سلوك النظام تجاه لبنان ودعمه للأطراف اللبنانية المثيرة للفتنة والاضطراب، تلك الأطراف التي كانت ولا تزال اليد الإيرانية السورية في العبث بأمن لبنان وضرب تجربته الديمقراطية وإثارة القلاقل..
وكل ذلك يصب في قناة سعي النظام السوري للحفاظ على نفسه وإطالة أمد حكمه.
وعلى الصعيد الخارجي أيضاً، لم يقف النظام موقف المتفرج من أوروبا التي كان برلمانها يدرس مسألة الشراكة ومستوى العلاقة مع سوريا ويربط ذلك بسياسة النظام الداخلية.
وقد أراد النظام السوري إرسال رسائل تطمينية للأوروبيين إلا أنه فشل على جبهتين:
1- جبهة تعامله مع القوى والشخصيات المعارضة والمنظمات غير الحكومية، والتي لم يستطع النظام ضبط نفسه إزاءها فازدادت عمليات الاعتقال والضغط والقمع..
وهذا ما تم ذكره في البلاغ.
2- جبهة التعامل مع مسألة الشعب الكردي في سورية وحركته السياسية..
فبعد أن حصر الرئيس السوري المسألة الكردية في قضية إحصاء عام 1962م واعتبرها «مشكلة تقنية» في إحدى لقاءاته الاعلامية، سعى النظام السوري إلى الحصول على وثيقة موقعة من ممثلي الشعب الكردي في سوريا تؤكد بأن المسألة الكردية تنحصر في قضية الإحصاء المذكور وأن حل تلك القضية يعني حل المسألة الكردية.
وقد مارس النظام سعيه هذا عبر خطين:
– الخط الأول شغله الحزب الشيوعي السوري (جناح يوسف فيصل) كوسيط، والذي طرح على الأحزاب الكردية التوقيع على مذكرة تطالب بحل قضية إحصاء عام 1962م.
وقد فشل هذا المسعى من خلال الوقفة السليمة لحزبي آزادي ويكيتي الكرديين الذين رفضا التوقيع على مثل تلك المذكرة إلا إذا اعتبرت حل قضية الإحصاء مدخلاً لحل المسألة الكردية برمتها وجزءاً منها وليس نهايةً للمطاف، وعندها رفض الوسيط الشيوعي ذلك.
– الخط الثاني كان عبر بعض الشخصيات المكلفة من نائبة ريس الجمهورية نجاح العطار والمكلفة بدورها من القيادة القطرية لحزب البعث، حيث تم الطلب من ممثلي الأحزاب الكردية التوقيع على وثيقة تطالب بحل قضية الإحصاء لا غير.
وعندما قام بعض من هذه الأحزاب بإعداد الوثيقة المطلوبة وتوقيعها وتقديمها إلى العطار لم تكتف الأخيرة بتواقيعهم بل طلبت من حزبي آزادي ويكيتي التوقيع.
وكان الموقف السليم لهذين الحزبين الرافضين للتوقيع سبباً لإفشال هذا الخط أيضاً، حيث أفاد الحزبان في رسالة لهما إلى العطار بأن اللقاء معها المطلوب منها إذا تم فيجب أن لا ينحصر في قضية الإحصاء بل ينبغي أن يشمل المسألة الكردية برمتها أو يكون مقدمة للتباحث بشأن حلها..
ولم يأت أي جواب من نائبة الرئيس حتى اليوم.
وعلى الصعيد الداخلي يحمل تحليل البلاغ قصوراً من جهة اكتفائه بذكر عنصرين من سلوك النظام السوري للحفاظ على بقائه .
فبالإضافة إلى ذينك العنصرين استمر النظام في سياسة نشر ثقافة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» والتي بها يتم التغطية على سياسات القمع والإفساد والنهب.
كما استمر النظام في إنكار وجود الشعب الكردي في سوريا على أرضه وحرمان هذا الشعب من حقوقه القومية وممارسة كافة أشكال الاضطهاد القومي بحقه.
بعد ذلك يقوم البلاغ بسرد الأوضاع الاقليمية باختصار وبأسلوب تقريري يريد إيهام القارئ بحيادية الموقف تجاهها، إلا أن التعمق في القراءة يبرز بوضوح الموقف غير السليم تجاه بعض تلك الأوضاع.
فبالنسبة للعراق ، يقول البلاغ : «تصاعدت عمليات القتل والتطهير المذهبي ، خاصة في بغداد ، وزادت من حدة التوتر والاحتقان المذهبي ليس في العراق وحسب بل وفي العديد من البلدان العربية والاسلامية».
إن هذا الكلام يتضمن رسالتين :
1- الأولى تحتوي على الموقف من الارهاب المتصاعد في العراق ، بتجاهله والاكتفاء بـذكر « عمليات القتل والتطهير المذهبي » الممارسة « خاصة في بغداد » على حد تعبير البلاغ ، أي ضد السنة في العراق .
فهل يساهم هذا الكلام في الذهاب باتجاه تأكيد ما سمعناه من معلومات حول مساهمة بعض أطراف وأشخاص إعلان دمشق في صنع الارهاب في العراق ؟!.
2- إقناع القارئ بأن الوجود الأميركي في العراق يؤدي إلى زيادة حدة التوتر والاحتقان المذهبي ليس في العراق فحسب بل وفي محيطه أيضاً، وبالتالي ضرورة وقوف الجميع ضد هذا الوجود، حيث يرى البلاغ بأن «الحل يبدأ بانسحاب أميركي سريع من العراق».
وبصدد سياسة الادارة الاميركية تجاه العراق يقول البلاغ بأن تعديلات الرئيس جورج بوش في أركان قيادته وقراره إرسال تعزيزات عسكرية إلى العراق..
أتت لتعبر عن رفضه توصيات تقرير لجنة بيكر – هاملتون وعن توجه تصعيدي «دفع بعض المعلقين إلى وصف المخطط الأميركي القادم بإعادة احتلال العراق وإعادة صياغة تحالفاتها بما فيها تشكيل السلطة العراقية من جديد» حسب ما ورد في البلاغ.
وهذا يعني – حسب قناعة أصحاب البلاغ – بأن ما حصل سابقاً هو احتلال أميركي للعراق وليس تحريراً له من قيود الدكتاتورية، وأن السلطة العراقية الحالية هي من صنع خارجي أميركي وليست سلطة شرعية منبثقة عن برلمان منتخب بشكل حر ونزيه بعد وضع الدستور الذي صوت له أكثر من ثلثي العراقيين..!!!.
ويختتم البلاغ « سرده » بالقول بأن التأمل في المشهد السياسي للمنطقة يوحي «بسعي أميركي إلى الدفع باتجاه صِدام عربي إيراني رغم أن الحل كما نرى يبدأ بانسحاب أميركي سريع من العراق وحل الصراع العربي الاسرائيلي وكف يد الدول الإقليمية عن اللعب بالواقع العربي» حسبما ورد في البلاغ.
وتعليقاً على هذه الخاتمة سأكتفي بسرد بعض التساؤلات :
1- إذا كانت الادارة الاميركية تسعى إلى الدفع باتجاه صدام عربي إيراني فلماذا حاربت النظام العراقي البائد وأزالته من الوجود، وقد كان ذلك النظام مجرباً وجاهزاًَ لتكرار تجربته السابقة بمحاربة إيران إذا ما أرادت منه الادارة الاميركية ذلك مقابل ديمومة صدام حسين ونظامه على رقاب العراقيين؟!.
2- إذا كان « الحل يبدأ بانسحاب أميركي سريع من العراق » فهل فكّر أصحاب البلاغ بمصير العراقيين وسط كابوس الارهاب في حال الانسحاب الاميركي من العراق دون أن يتم تهيئة العراقيين لحماية أنفسهم وسلطتهم الشرعية بأنفسهم ودون مساعدة القوات متعددة الجنسيات؟! ثم: أليس هذا الموقف مناقضاً للموقف الوطني العراقي المتمسك ببقاء هذه القوات حتى إشعار آخر؟!.
3- ما المقصود بـ « كف يد الدول الاقليمية عن اللعب بالواقع العربي» وقد وردت هذه العبارة بصيغة عامة ودون تحديد؟!:
أ- هل المقصود هو إيران « الشيعية » التي تدعم بعضاً من الشيعة في العراق، ويريد أصحاب البلاغ – بالتالي – الوقوف مع السنة العراقيين ضد «الخطر الشيعي»؟!.
ب- هل المقصود هو إثيوبيا « المسيحية » التي تدعم السلطة الصومالية المقبولة إقليمياً ودولياً ضد فلول المحاكم الشرعية الاسلامية البائدة؟!.
ج- وأخيراً – وبدلاً من الخاتمة – هل إن المشاكل والأزمات في العالم العربي ناجمة عن التدخل الاقليمي أو الدولي، أم أنها أزمات بنيوية تخلقها وتدعمها وتديرها الأنظمة القمعية والقوى الظلامية وثقافة الطغيان؟!..