روني علي
كلنا يتذكر، وبما فيه الكفاية، كيف كنا، كحركة كردية في سوريا، ندعوا الحركة الكردية في الأجزاء الأخرى، إلى التواصل والتوافق، وإلى بناء أسس التعامل والتفاعل، بعيداً عن النزعة الحزبوية المستفحلة في الواقع، لأن المنطق كان يقول؛ بأن الاستمرار وفق عقلية الحزب والتحزب، والاستناد على مفهوم الأنا في وجه الآخر، فيه هدر للطاقات، وإقصاء للمشاريع، وفيه تخلف الكرد عن ركب التطور، وإلحاق الأذى بالقضية الكردية، ناهيكم عن هتك للمقدسات وهدر للدماء ..
وعلى الأساس ذاته، كنا نتوجه، وندعو إلى أن اللغة التي تجمعنا، بحكم القضية التي تحتضننا، هي لغة الحوار بدلاً من لغة العنف والإقصاء والتهميش، لأن في تلك اللغة ضياع للمستقبل وإفناء للآمال والطموحات..
وإيماناً منا بأن ما ندعو إليه هي الحقيقة بعينها، وهو الأصح الذي ينبغي أن يتفاعل، ويجد ضالته في الوسط السياسي والحزبي الكردي، كانت الوفود تتقاطر إلى ربوع كردستان، وتحديداً العراق، لإصلاح ذات البين، والدفع باتجاه توحيد الجهود والإرادة، مع أننا كنا على يقين تام، بأن الأطراف التي نناشدها وفق رؤيتنا، هي أحزاب شبه سلطوية، لما تتمتع بها من مزايا سياسية وعسكرية ومادية، وهي أحزاب تمثل قطاعات لا يستهان بها من الشارع، وأن ما يفرقهم ليس فقط البعد السياسي، بل هناك أمور تتعلق في التركيبة الاجتماعية، وأخرى لها صلتها بمراكز القوى والمؤثرات الإقليمية والدولية ..
وبعد أن تغيرت المعادلة، وتغير البعد السياسي في المنطقة، وخاصةً منذ ما بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، وتبلور ملامح مشروع التغيير، بدأت تلك الأطراف بالتحرك صوب مواقعها الإيجابية، والتي فيها خدمة للقضية الكردية، إلى أن تكللت تحركاتها ونشاطاتها على الأرض، واختارت أن تواكب الحدث من زاوية الرؤية الكردية والمصلحة القومية، بعيداً عن العقلية السائدة في المنطقة، والثقافة التي تؤسس للفعل والموقف، وفق منابع إيديولوجية تستند إلى شرعنة الإقصاء وهدر دم المخالف، وبالتالي توحدت واتحدت وأنجزت، وإن كان الطموح ينحى باتجاه المزيد من التفاعل، والمزيد من وحدة الرؤية والإرادة، والشعور ما زال مشوباً ببعض الخوف والحذر ..
ونحن أصحاب الدعوة إلى الوحدة والتوحد والاتحاد، ما زلنا ننشد تلك السمفونية ونعزف على أوتارها، وكأننا خلقنا لأجل تقويم مسارات الغير، وتقديم النصح والإرشاد له، دون أن نبحث في الذات، أو نعود إلى دعواتنا وننبش في هياكلنا، كي نحاول التقرب من جوهر الأزمة التي تلف خواصرنا السياسية والحزبية، خاصةً ونحن في مرحلة، تأبى الترهل والسكون، وفي منعطف تاريخي، لا مكان فيه للأنا على حساب نسف الآخر أو احتوائه، لأن مجرد انتظار اللحظة التي ننتظرها، أو الرهان عليها دون امتلاك أدوات الفعل، أو الركون إلى عقلية ما قبل الحرب الباردة، فيه سكون للفعل وتحجيم للدور، وبالتالي فيه سقوط للأهداف التي نستمد منها شرعية دعواتنا ونبني عليها مواقفنا ومرتكزات خياراتنا ..
وإذا ما امتلكنا قليلاً من الجرأة في التصدي للحقائق، ووضعنا جانباً ردود الفعل، التي قد تصدر من بعض المتنفذين أو المستفيدين من هذا الواقع الستاتيكي في الحالة السياسية الكردية، وتحديداً الحزبية، لامتلكنا القدرة على الإدلاء برأينا، وأطلقنا صرخةً في وجه كل هذا النفاق الممارس من جانب الدعوات التي تهدف إلى توحيد الموقف والكلمة، على غرار ما يتم الدعوة إليه من مرجعية كردية أو مؤتمر قومي كردي أو وحدة الحركة الكردية، وذلك لكونها تحمل في طياتها وعبر الممارسة، استخفاف بالعقل وتنجي على المنطق، كون الممارسة – ودائماً – تأتي على النقيض من الادعاء، وتصب في الجهة المخالفة لها، لأنه لو أردنا أن نحاور المنطق وفق ما هو مطروح، لكان الخيار الأكثر جلاءً، يتجسد في القضاء على ظاهرة التشرذم عبر توحيد الرؤى السياسية، المتفقة من حيث الطرح، والمبعثرة في حزيبات هنا وهناك، قبل الدخول في البحث عن آليات لملمة الحركة الحزبية بواقعها المتشظي والمعاش، وفق إرادة أقطاب وأبطال الانقسامات والانشقاقات، والتي تستند في غالبيتها، إلى جانب توازنات السلطة، على شخصنة مجمل مسائل ومسارات الحراك السياسي الكردي ..
فتجربة الحركة الحزبية، وعبر تاريخها المنكسر، تحمل في طياتها بعضاً من التجارب والمحطات، التي كانت تشكل بارقة أمل في نفوس أولئك الذين كانوا يراهنون على ما يتم الدعوة إليها، سواء من جهة الوحدات التنظيمية أو من جهة تشكيل بعض الأطر التجميعية، إلا أنها سرعان ما كانت تنكسر أمام حجم وقوة الفعل في إدارة الأزمة الكردية، وتحويل الخيارات السياسية إلى مجرد جسور ومعابر، من شأنها الحفاظ على نمطية الاستمرار، والتراتبية المترسخة من لدن أقطاب التصارع والتناحر داخل الأطر الحزبية، والتي تساهم بشكل أو بآخر؛ على ترسيخ نموذج الحرس القديم في آليات العمل والفعل داخل الأطر الحزبية، وبالتالي فإن كل ما يبتدعه العقل الحزبي من آليات ودعوات ومشاريع، لا بد وأن تأتي وفق ما تمليه مصلحة هذا الحرس من التأصيل والتجذر، وعلى أساس الحفاظ على التوازنات الشخصية والحزبية داخل الحركة ..
ولأن الموقف السياسي الحزبي الكردي لا يمتلك مقومات الاستقرار والاستقلال والاستمرار، ولأكثر من سبب، ومن أكثر من جهة، فإن العنة هي الصفة الملاصقة لأي دعوة تهدف إلى الفعل، كونها تحمل بذور الهدم والنسف في طياتها، وهذا ما لاحظناه حين إنجاز أول تجربة وحدوية عبر تجميع بعض الأطر تحت سقف حزبي موحد، وما كابدتها تلك التجربة من انكسارات حين اصطدمت بمواقع ومراكز القوة داخل الحزب الوحدوي، بحيث جاءت النتيجة كما هي مألوفة، من حفاظ كل مركز بمشيخته بمنأى عن الآخر، وكذلك ما رافقت التجربة الوحدوية الأخيرة من عمليات التحرش، والبيانات المضادة، من قبيل التمترس في خنادق معينة بغية الحفاظ على الموقع والمركز، ومحاولة لبسط السيطرة والنفوذ، وهو ما نلاحظه الآن من تصرفات ومواقف اختلاقية، ومن جانب أصحاب الدعوة نفسها، بهدف تقويض ما تم البوح به، وعلى غفلة من الزمن، حول خيار التأسيس لمرجعية كردية، بحيث تدخلنا في حروب سياسية حول مفاهيم الشعب وحقائق الجغرافيا وقضايا التفاعل مع الحقوق، والهدف لا بد وأن يصب في دائرة نسف ما تم ترويجه من آليات للتقارب، وإن كنا على قناعة بأن تلك المرجعية المنشودة كانت ترمي، إضافةً إلى الحفاظ على ما هو ثابت داخل الأجسام الحزبية من توازنات وهياكل وشخوص، إلى هدف وحيد وأكيد، وهي إلحاق الأطر التي ما تزال تحتفظ لنفسها بالبعض من الموقف، بالإطار الذي سمي بإعلان دمشق، ناهيك عن أن شكل اتخاذ القرار في هذه التركيبة، استناداً إلى مفهوم الأقلية والأغلبية في اتخاذ القرار، ستشكل بحكم الممارسة، طلقة الرحمة في جسم تلك الأطر التي اتفقت على خيار الارتقاء بالنضال السياسي عبر آلياته وأساليبه، من تظاهرات واعتصامات ومسيرات، واتخاذ الشارع الكردي حاملاً للموقف والقرار، وبالتالي سحب تلك الورقة منها، ووضعها في قمقم القرار الذي يسمى بالإجماع أو الأغلبية أمام الشارع، ولا نجانب الحقيقة إن قلنا بأن المشروع قد حقق البعض من مراميه قبل التنفيذ، حين دقت بعض المسامير في نعش تلك الأطر التي أعلنت عن نفسها وخيارها السياسي عبر لجنة التنسيق، حين انفتحت على البعض وتجاهلت البعض الآخر، واستطاعت أن تجر البعض منها إلى حوارات ثنائية، دون الأخذ بعين الاعتبار بأن الدخول في التنسيقات السياسية كانت وليدة حاجة سياسية، تتلخص في توحيد الرؤية حول مجمل القضايا المطروحة، وكأن المسألة تتعلق بموضوع التسويق الحزبي والشخصي، دون أن نحدد البعد السياسي للموضوع، والذي فيه بوادر التخلص من التنسيق والالتحاق بما هو مفروض من مواقف تنال رضى مراكز القوة والقرار من هنا وهناك ..
خلاصة القول، أعتقد أن مصداقية أية مبادرة أو مشروع سياسي، ينبغي أن يجسد الحقائق ويهدف إلى تحقيق آماني وطموحات الشعب الكردي، وهذا ما نفتقده بحكم أن كل دعوة بهذا الاتجاه تحمل في ذاتها بذور الفرقة والتناحر حين تأخذ طريقها إلى التنفيذ، وكأن العملية برمتها هي شكل من أشكال إلهاء الشارع والاستخفاف بعقول المنخرطين في الحقل الحزبي، ذاك الحقل الذي لم يخرج بعد من كماشة إدارة الأزمة، وذلك بحكم استلابه من قبل أقطاب الحرس القديم والذهنية الاقصائية، وعليه فلا مجال للقفز من فوق الوقائع دون امتلاك إرادة التغيير داخل الهياكل التنظيمية، والتي لا بد وأن تنطلق من إيجاد آلية معينة لدور ومهمة وموقع ذاك الحرس، دون إقصائه أو وضعه في خنادق المواجهة، في خطوة علها تساهم في تحرير الموقف السياسي من براثن الاستيلاء والسيطرة، لأن استمرارية هذا الحرس في موقع القرار والتقرير، يعني استمرارية حالة الركود والمواجهات المستمرة بين ما هو سياسي وما هو ثقافي، إضافةً إلى الاستمرار في خندق عقلية التآمر والمؤامرة وشخصنة كل ما يتعلق بأدوات الفعل والارتقاء والتفاعل والتقارب ..